فخري كريم
واحد من أكثر المظاهر تكراراً في الحياة السياسية العراقية بعد 2003 هو أننا دائما في مواجهة أزمة سياسية حادة ينبغي اجتيازها حتى نصل إلى استحقاق ما أو مرحلة ما من مراحل تلك الحياة السياسية التي ما أكثر الولادات القيصرية فيها!
دائما ينبغي أن نمر بخانق سياسي هو نتاج طبيعي لسوء التفاهم ولاختلاف النوايا وهيمنة روح التربص، لدى البعض، والاستئثار والاستحواذ على أكبر ما يمكن الاستحواذ عليه من الغنائم السياسية.إن جوا من التشكك واللا ثقة والخوف، من الماضي لدى جانبٍ ومن احتمالات المستقبل لدى جانب ثانٍ ومن وساوس حاضر مشترك ملغوم ما بينهما، هو ما يتحمل مسؤولية تلك الأزمة النفسية السياسية التي تتفاقم بين مختلف الأطراف.ومن المؤسف أن عملا سياسيا قائما على الشحن الإعلامي الدائم هو ما يديم هذا الاحتقان النفسي لدى النخب السياسية وينزل به بالعمد إلى القاع الاجتماعي الذي تعتمل فيه مشاعر متضاربة بين الخوف والاطمئنان، بين الشك واليقين، مشاعر يغذيها سياسيون، بمصالح متضاربة، كما تنميها ظروف ملتبسة ويكرسها تاريخ مشحون بالدم والطغيان.
كان التفاهم الذي يُفترض أن نتوفر عليه خلال ست سنوات من العمل المشترك هو أقل بكثير من أن يسمح بانحسار الأزمة التي بقيت تتفاقم بين أطراف لا يحكمها أي تشريع مسبق ينظم العلاقة فيما بينها وينظم الحياة السياسية والإدارية والاقتصادية. كان جوهر المشكلة وسبب تكرارها أن هذه الأطراف هي التي تمتلك زمام التشريع وتقف على ناصية العمل بالتشريع على حد سواء.إن الكثيرين ينظرون إلى التشريعات بوصفها وسائل يسعى الآخر إلى فصالها على مقاس مصالحه، وهو شعور يدفع إلى التدخل في سن التشريعات من باب المصالح وليس من زاوية مدى استجابة التشريع للعمل الديمقراطي الذي يضمن مصالح الجميع وحقوقهم وبما لا يترك مجالا لشعور بالغلبة ولآخر بالخسران. هذان الشعوران هما مقتل الأنظمة الدكتاتورية المتعسفة وبذرة موتها التي تظهر ولو بعد حين.ولعل مسؤولية المشرِّع الديمقراطي ونجاحه يكمنان في إغلاق جميع المنافذ التي قد تسمح بشعور بغلبة وتفوق أو خسران وتهميش.. وفي الطور الأكثر تحديثا في النظم الديمقراطية المتطورة اصبحت التشريعات تسعى إلى توسيع الاهتمام بالفرد وصون حقه بفرديته، بعدما باتت الديمقراطية نظاما سياسيا واجتماعيا لصون حقوق الأقليات وحفظها من التهميش الذي قد يتكرس كناتج عرضي لحكم الأكثرية بموجب الدساتير الديمقراطية وآليات عملها السياسية الانتخابية.
ما زال الكثير يفصلنا، تاريخيا وثقافيا، عن هذا النمو والتطور الطبيعي لديمقراطية مجتمعات متقدمة..لكن مشكلة ديمقراطيتنا أنها تواجه معيقات بنيوية داخلية.فليس كل الذين يتنعمون الآن بامتيازات (الديمقراطية العراقية) ديمقراطيين.وتكون المشكلة أكبر حين يكون كثير من هؤلاء هم المشرعين لديمقراطية ناشئة، ديمقراطية تحبو بين إرادات عزلاء صاحبة مصلحة حقيقية بها وبين مطامع تظهر من الولاء إلى الديمقراطية أقلّ بكثير مما تخفيه من خناجر الارتداد عنها.هكذا نسمع، في أوقات الأزمات، كلاما صاخبا وتلويحا بالخناجر المخبأة خلف الظهور كلما أريد الاستحواذ على امتياز أو تعطلت المصالح.وهكذا نسمع عن محاولات لتكييف أي تشريع على وفق ما تقتضيه المحاصصة التي ظاهرها محاصصة مكونات اجتماعية فيما باطنها بات يشير إلى محاصصة مكونات سياسية تستعير اسم المكون الاجتماعي وتأخذ امتيازاتها بهويته.وإلا كيف نفهم الجدل الذي دار أيام العيد ويدور الآن عن رغبة البعض بـ(توافق) على حصص المحافظات من المقاعد البرلمانية بعدما حسم الأمر بالتعديل الذي طرأ داخل البرلمان على قانون الانتخابات.
لا يمكن فهم هذا السعي إلا على انه محاولة للنزول بنظام المحاصصة من مستوى نظام الحكم وإدارة الدولة إلى هذا المستوى المناطقي، وهو نزول يخفي رغبة ملتوية تريد تثبيت نمط معين لتقاسم السلطة بخلاف ما قد تأتي به آليات الديمقراطية ونتائجها الانتخابية.
إن ما هو أكيد أن البلد يحتاج في المدى المنظور إلى الإستمرار بنظام التوافق السياسي، ولعل طبيعة البنية السياسية الحزبية السائدة هي في مقدمة ما يفرض هذه الحاجة..لكن البلد بحاجة أشد إلى أسلوب يجري بمقتضاه التخلص من النتائج المدمرة للمحاصصة.ومن الغريب أن دعوات النزول بالمحاصصة إلى مستوى المحافظات تأتي من الذين كثيرا ما سمعناهم، وهم يتنكرون للمحاصصة ويطالبون بالتخلص منها ويلقون بتبعة المجيء والعمل بها على آخرين، لكن يبدو أن المحاصصة ستظل مطلوبة لهؤلاء بمقدار ما تأتي به من (فوائد) ومدانة بمقدار ما تذهب بفوائدها إلى أولئك الآخرين