فوزي كريم أصبحت ستوكهولم أكثر من مألوفة لدي، لعوامل ثقافية عدة: مهرجان "مقهى بغداد"، وقد دُعيت إليه أكثر من مرة، ترجمت قصائدي إلى السويدية في كتاب صدر عام 2005، صداقاتٌ حميمة مع شعراء هناك، ثم المختارات الضخمة، التي صدرت في العربية، دار المدى عام 2009،
ولعل هذه الألفة شملت أكثر من شاعر عربي. كما شملت أكثر من شاعر سويدي باتجاه معاكس، وليس غريباً أن يكون وراء كلّ ظاهرة الأُلفة هذه شخصٌ ناشطٌ واحد. الشاعر العراقي جاسم محمد أقام في ستوكهولم طويلاً. حتى صار يكتب شعره بالسويدية، التي أحسنها كأحد أبنائها. أسس لمهرجان شعري، وترجم لعدد من شعراء العربية، أسهم، مع الشاعر السويدي ماغنوس أولسون، في تحرير المجلّد الأنطولوجي الضخم من الشعر السويدي. ثم أنجز الترجمة إلى العربية بالتعاون مع الشاعر إبراهيم عبد الملك. كتابُ المختارات الذي تجاوز 350 صفحة من القطع الكبير، اقتصرَ على المرحلة التي تلت المرحلة الستينية، وضمَّ بين دفتيه 21 شاعراً، مع دراسة تفصيلية كتبها ماغنوس، رسم فيها خارطةً غاية في الوضوح للشعر السويدي، الذي نكاد نجهله تماماً. النزعةُ الستينيةُ الغربية، التي ابتلعنا قشورها في حياتنا نصف الريفية، منحت للجيل الستيني السويدي "وعياً جمالياً وسياسياً جديداً، نشأ بإلهام موسيقي (كيْج، ستوكهاوزن، ليغيتي، بوليز) وتشكيلي صوري (روشينبيرغ، وورهول، فلوكسُس).."، هذا الإلهام الموسيقي والتشكيلي مجهولٌ عندنا بصورة مطلقة، طبعاً. ولذا تعلّقت حماساتنا بجانب ما يسميه ماغنوس "الأدلجة"، الطافية دون جذورها خالصة الغربية. هذه الستينيات السويدية "كانت أيضاً نقطة الانطلاق لما اصطلح على تسميته بالشعر "البسيط الجديد"، وهو اتجاه أدار ظهره لنخبوية الحداثة، باحثاً عن ذاته في اليومي الشعبي عوضاً عن ذلك، وحين تفجّر الاهتمام بالسياسة والإيديولوجيا على هيئة حركة قوامها الطلاب والمراهقون، أخذت حركة "البساطة الجديدة" منْحى آخر تمثّل بالقصيدة التحريضية التي كانت متصلّبة إيديولوجياً في أغلب الأحيان، وهذه الأنطولوجيا التي نقدمها تبدأ بالمرحلة التي شهد الشعر السويدي فيها إحكامَ قبضةِ هذه النزعة الأدبية عليه." الموروث الشعري السويدي المعزول، والذي لا يضاهي ضخامةَ الموروث الإنكليزي على سبيل المثال، جعل الشعر الستيني تحت ضغط الموجة الأمريكية، كقارب في محيط عاصف، ولذا بدت لي الاستجابة، بصورة من الصور، مقاربةً لاستجابتنا. يقول ماغنوس "أن جيلاً تشكّل متأثراً بالثقافات الشبابية والموضات العالمية المتزايدة والمُثُل التي انتشرت في العالم والنابعة من الولايات المتحدة الأمريكية وإنكلترا في المقام الأول..". هذه الاستجابة واضحة في قصائد الإنطولوجيا المترجمة، فهي موزعة على قصيدة اللغة، وقصيدة الصورة، والقصيدة المؤدلجة، والقصيدة الخليط، حيث لا قرابة بين الأصوات الشعرية. وأمر صلاحية هذه الخصائص لتوفير قصيدة جيدة مازال، وسيظل، موضع خلاف. في مهرجان "مقهى بغداد" الأخير سرّني لقاء أصدقاء قدامى، انقطعت بيني وبينهم السبل، مثل الشاعر السوري علي كنعان. كما سرّني التعرف على صوت فرنسي، لبناني الأصل، لا عهد لي به. الشاعرة فينوس خوري قرأت قصيدةً طويلة بطلاقة تليق بممثلة فرنسية على خشبة مسرح كلاسيكي، في هيئة تُشبه بطلة أسطورية من رخام أبيض، الاسم لم يكن غريباً عليّ تماماً. فقد قرأت، قبل سفري إلى ستوكهولم، خبر صدور مجموعة شعرية لها عن دار Carcanet تحت عنوان Alphabets of Sand، وكنت قد طلبت المجموعة رغبةً في التعرف على صوتٍ من أصل عربي، وعرضها للقارئ في عمودي الأسبوعي هذا. القراءات السويدية، بفعل العلاقة الحميمة مع قرائها الشعراء، أيقظت أُذني على عذوبة، وغنائية لغتها الشعرية، كان Tom المسرحي (ابن الشاعر ماغنوس) يقرأ قصيدتي الطويلة نسبياً، وكأنه ينفرد، في القاعة الكبيرة، بكل مُصغٍ على حدة. يهمس في كلِّ أذنٍ طبقةَ صوت تلائمها، ولم تكن الدرسَ الأول. آخر القراء كان مفاجأة للجميع. شاعرٌ بالغ الإعاقة بفعل شلل تام.. قُرئت عنه قصائده، دون أن نعرف كيف كتبها، وبأي السبل التقنية، كان ينظر إلى المستمعين برأس لا يستقر على رقبة، وبعين لا تستقر بمحجر، أطل غامضاً.. وربما بدونا له أكثر غموضاً.. من يعرف؟
الدرسُ السويدي
نشر في: 6 ديسمبر, 2009: 06:02 م