نجم والي هناك بعض النخلات في الكيبوتس، كيبوتس مزارع، لكن نخلة واحدة لفتت نظري أكثر من غيرها، نخلة ارتفعت لوحدها، توسطت الحقل الصغير القريب من بيت صديقيّ، أبراهام وهاجر، كانت نخلة ضخمة، قصيرة، ليست عالية على شكل النخل الذي أعرفه منذ طفولتي، أنها نخلة مختلفة،
ذكرتني وقفتها بتلك النخلة التي أرادت مني ذات مرة أن تكون شخصية رئيسية لرواية تحمل اسمها: "بالما سولا" النخلة الوحيدة، هذه النخلة أيضاً وحيدة النخل ينمو دائماً إلى جانب بعض يحتاج بعضه البعض، وكلما كان قريباً من بعض كلما نما عالياً بسرعة وكأن كل نخلة تضيف من طولها لطول النخلة التي في جوارها، وهذه النخلة؟ هل هي قصيرة لأن هناك من زرعها بعيداً عن بقية النخلات، أم أنها شعرت بالغربة طوال هذه السنوات وراحت تبتعد وتبتعد عن بقية أخواتها، النخلات الأخريات التي اصطفت بتناسق جميل عند دروب الكيبوتس لدرجة أنها انكمشت على نفسها؟ نحن في شهر مارس. الثمار التي حملتها النخلة ما تزال صغيرة، لونها أخضر اقترب للصفرة، نطلق عليها عندنا "خلالْ"، "نخلة ملفتة للنظر"، قلت لأبراهام ونحن نسير في عصر اليوم الأول من وصولنا، هناك الكثير منها هنا، قال لي أبراهام وكان يقصد بقية النخل، أردت أن أقول له أنني قصدت هذه النخلة لا غير، أنها فريدة من نوعها، لكنني بدل ذلك وجدتني ونحن في طريق النزهة للحقول المجاورة أسلم نفسي إلى مونولوج داخلي، لقد تربيت على يديّ جدين تشكلت حياتهما بشكل ما عن طريق علاقتهما بالنخل، الجد الأكبر، جدي من ناحية أبي عمل أكثر من خمسة عقود بستنجياً في بستان المقبرة الإنكليزية في العمارة، بستان أخذ الكثير من أشكال الجنة على يده، كنت أراه يعتني بالنخل دائماًً، يتفقد كل نخلة، يتفحصها، يلمسها بيديه برقة كأنها ابنته، في بعض المرات رأيته يتحدث معها، صوته فيه نبرة الحديث مع إنسان قريب له، وإذا سألته، لكن النخلات ليست كائنات بشرية لها آذان تسمع، ينظر إلي ويضحك، ثم يقول لي، ما زلت صغيراً، عندما تكبر وتكون عشت قريباً من النخل سنوات طويلة ستعرف أنها لا تسمع وحسب، بل تناديك كلما رأتك تقترب منها، نعم بإمكانك معرفة ما تشعر به النخلة، أنظر إليها كيف تحرك سعفها، هل ترى ذلك السائل اللزج الذي يخرج من لحائها؟ أنها دموعها، هذا يعني أنها حزينة، تبكي وليدها، الفسيلة التي نمت في حضنها، ربما هو مريض أو ربما هو مات، وذلك هو الأشد حزناً، كلما فقدت النخلة فسائل كثيرة كلما أغرقت نفسها بالبكاء، أنظر إلى لحائها، هو الذي يقول لك درجة الحزن التي وصلت إليها، بعد سنوات، فهمت لماذا أطلق الناس عندنا على لحاء النخل اليابس، المتساقط، اسم: "الكَرَبْ"، أي "الحزن"، "الغم"، "المعاناة" وغيرها من التنويعات الحزينة، الجد الأصغر، جدي من ناحية أمي، فرج يوسف عمل ثلاثة عقود مفتشاً في شركة تمور البصرة، في أيام العطلة الربيعية والعطلة الصيفية، في تلك الأيام التي كنت أقضيها عندهم كان يأخذني معه إلى منطقة المعقل، حيث المطار ومحطة القطارات القريبين من معامل ومخازن شركة التمور، هناك كنت أصعد معه إلى فاركونات القطارات التي انتظرت دورها لكي تنطلق إلى الوجهات التي أُريد لها، كل مرة رأيت جدي يُحصي صفائح التمر التي صُفت هناك، تمر مُحشى باللوز والجوز، كل أنواع التمور تلك التي لا يأكلها الأهالي عادة، لأن الدولة تستخدمها للتصدير فقط، ثلمئة وأربعة وأربعين نوعاً تذهب إلى الصين بصورة خاصة، أجابني جدي، عندما سألته عن الوجهة التي تذهب إليها، لكن هناك نوعاً واحداً سيحترق من حزن فراقه البلاد، قال لي جدي، نوع واحد أكثر من الأنواع الأخرى، تموع روحه منذ الآن قبل أن ينطلق في طريقه إلى بلاد الجنس الأصفر، أنه تمر "البرحي"، ثم أخرج لي تمرة برحي من إحدى الصفائح التي تُركت مفتوحة لغرض التفتيش، دائماً أطلب منهم أن يتركوا صفيحة البرحي مفتوحة، وليس غيرها، البقية تتحمل الغربة أخبرني جدي، لكن البرحي هذا، يا سبحان الله، تموع روحه ما أن يُحشى ويٌكبس في الصفيحة، وعندما يرى وجهي يتقلص من الحزن، يضحك ويسلمني تمرة لكي آكلها، ويقول لي، البشر يشبهون التمر، تموع روحهم ما أن يفارقوا المكان الذين تآلفوا فيه، العجيب أن جدي هذا لم يستخدم يوماً كلمة مسقط الرأس، كما هي العادة غالباًَ، بل كان يقول: "المكان الذي يتآلف فيه الإنسان" يمكن أن يكون كل مكان، المهم هي الألفة، المكان الذي يألف الإنسان هو الوطن بالنسبة له، طبعاً بعد سنوات، وعندما أكبر أعرف، لماذا قال ذلك، لأنه هو الذي وُلد في بلدة كميت القريبة من مدينة العمارة غادر مسقط رأسه وهو شاب صغير، وظل يتنقل بالعمل من مدينة إلى أخرى ولم ير مسقط رأسه ثانية حتى وفاته، ولكي يساعدني على فهم ذلك، قال لي مثلك، أنت تألف المكان هذا، بودك أن تبقى دائماً معي في البصرة، ثم يقرصني من خدي، ثم تموع روحك حالما تعود إلى العمارة مجدداً، كان جدي فرج وعلى عكس عبوسه المعروف به مع الآخرين، كثير المزاح معي، لكنه لم يعرف الأثر الذي ستطبعه عليّ كلماته منذ ذلك الوقت والتي ستظل مصاحبة لي سنين طويلة، بالتأكيد كانت تلك
بالما سولا في ألم النخلة الوحيدة
نشر في: 6 ديسمبر, 2009: 06:03 م