TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > محاورة عن الجميل.. (هيبياس الأكبر)

محاورة عن الجميل.. (هيبياس الأكبر)

نشر في: 7 ديسمبر, 2009: 05:01 م

عامر صباح المرزوك ان تنوع المحاورات الأفلاطونية لا ينتقص من تكاملها، ولا يقلل الروابط القوية التي تشدها إلى نظرية المعرفة، فالمشروع الأفلاطوني في تنشئة الإنسان على الفضيلة، ليس سوى درجة من درجات الخط المتصاعد للجميل باتجاه الجمال المعرفي الأمثل، فهي توحي للمواطنين بـ(الاهتمامات الجميلة)، وللسياسيين بـ(القوانين الجميلة)، وللخطباء بـ(العلوم الجميلة).
 ووصلت ألينا عشرون محاورة أفلاطونية، لكن أول بحث متكامل عن الجميل، هو محاورة (هيبياس الأكبر)، التي عدها الباحثون من أهم المحاورات، وذلك لاحتوائها على أهم خصائص التفكير المنهجي في المسائل الفلسفية، وتنبثق أهمية هذه الخصائص من كونها تجمع إلى فلسفة أفلاطون وأسلوبه الشيق. لاسيما ان سقراط لم يترك أثرا مكتوبا يدل عليه الدلالة التي رسخت في أذهان الناس عن حياته ومماته، ففي حياته كان أنسانا حرا تشتعل بداخله رغبة المعرفة، ومحبة الحقيقة، عاش أنسانا بسيطا، يحترم قوانين مدينته أثينا التي حارب من اجلها، وسعى إلى مقاومة أصحاب مدرسة السفسطائية مثل: بروتاجوراس، وجورجياس جياس، وهيبياس، وغيرهم. ومن ثم ارتبط سقراط بالحكمة وطرافة التعليم وأصالته وإدهاشه، ومن المعروف ان منهجه ينطلق من ان قوى الإنسان العقلية، وأول منظر للعقلانية، كما كان داعية إلى حرية الرأي والتفكير الفردي، مما جعل منه، مثالا يحتذى في كل موروث فلسفي لاحق، فيما ادعى خصومه واتهموه بجحود الآلهة، وبإفساد أخلاق شبيبة أثينا، وأبعدها عن مبادئ الديمقراطية الأثينية، وهكذا حكم عليه بان يتجرع السم وتجرعه راضيا، وفق الحكم الصادر بحقه، وجسد موته من اجل مبادئه مثلا أعلى سيظل على مر العصور، منبعا للإلهام الأدبي والشعري، ومن الجدير بالذكر ان أول مرثية بحقه قصيدة (موت سقراط) المنشورة سنة 1823 للشاعر الفرنسي (لامارتين). حقيقة القول ان سقراط التزم دوما بالتعليم عن طريق الحوار القائم على (الجدل السقراطي) ذي الطابع التهكمي الساخر، ولم تكن سخريته منفصلة عن غاياته المعرفية التي يرمي الى الوصول أليها، فهي وسيلته لمساعدة محاوريه على اكتشاف الحقيقة بسؤالهم، أسئلة متتالية تجبرهم في نهاية المطاف على ان يحددوا بأنفسهم تناقضاتهم الخاصة، وغالبا ما يبدأ الحوار بمشهد يلتقي فيه سقراط شخصا سفسطائيا يدعي المعرفة، ويتظاهر سقراط بأنه لا يعرف شيئا، ويختبئ وراء تظاهره بالجهل، وهذا ما يتجلى في محاورة (هيبياس الأكبر) التي تنطوي على سخرية لماحة يوظفها عن الجميل. وتجدر الإشارة هنا إلى ان (هيبياس الأكبر) بخلاف سائر السفسطائيين لا يتهمه أفلاطون بإفساد الأخلاق أو الدعوة إلى السلوك الرديء الشرير، ومعظم المعلومات ترجع إلى أفلاطون الذي جعله المحاور الوحيد لسقراط في محاورتين، كما أدرجه بين المتحاورين في محاورة (برمنيدس)، وكان ذا اطلاع واسع على كل علوم عصره، وأنتج كثير من فروع العلم والأدب، فألف قصائد مديح ومآس ومراث وخطبا، كما قام بتدريس الحساب والهندسة والفلك والموسيقى، والميزة الأخرى التي تميزه عن سائر السفسطائيين بأنه من العلماء الرياضيين وينسب له اكتشاف (الفاعل للتربيع) الذي أراد استخدامه في تربيع الدائرة. فمنذ الحوارات الأولى يحدثنا هيبياس عن تنقله في المدن وإرساله كسفير كونه الأكفأ في تقدير الأمور، واخذ الأموال من الشبان بوصفه معلما للدروس الخاصة، وفي هذا الصدد يتحدث سقراط حول السفسطائيين الذين يكسبون مالا بسبب دروسهم وخطبهم، كما فعل (بروديكوس) حينما قدم دروسا للتلاميذ، وخطبا أمام المجالس ووسط تصفيق حاد، وحصل بذلك على مبالغ كثيرة، فيما لم يعتقد أي حكيم من الحكماء الأقدمين ان يطالب بالمال ثمنا لدروسه، وان يعرض علمه أمام الناس على اختلاف أصنافهم، فكم كان القدماء بسطاء، بينما يقول هيبياس وهو يتحدث لسقراط: "لو علمت كم جمعت من المال... فسوف تستولي عليك دهشة بالغة... ذات يوم ذهبت إلى صقلية... جمعت في زمن قصير جدا مائة وخمسين مينا... وعندما عدت إلى بلدي حاملا هذا المبلغ، أعطيته لأبي الذي آخذه العجب والدهشة كما أخذ أهل مدينتي كلهم... وأنا على يقين من أنني حصلت من المال أكثر مما حصل سفسطائيان معا ممن تختارهم"، وهنا يستهزىء به سقراط بقوله "ها هو حقا انه يثبت بوضوح كم يتفوق علمك وعلم معاصرينا على علم القدماء". ومن الأسئلة التي وردت في المحاورة والتي أراد سقراط بها ان يستهزىء بهيبياس فقال له: في مجلس من مجالس النقاش حتى أربكني احد الحاضرين سائلا أياي بنبرة مفاجئة: قل لي يا سقراط، كيف تعرف الأشياء الجميلة، والأخرى القبيحة؟ هيا، هل بوسعك ان تقول لي ما الجميل؟، وكنت أنا الجاهل المسكين، حائرا، في حينها تركت المجلس، ولمست نفسي عازما على أنني عندما التقي واحدا منكم، أيها العلماء المتميزون، سأصغي أليه، وأتعلم منه، وها قد أتيت اليوم، فعلمني بالضبط ما يكون الجميل، وحاول ان تجاوبني بأكبر قدر ممكن من الدقة، حتى لا أتعرض للسخرية، إذ لا ريب في انك تعرف ما الجميل معرفة كاملة، ويبدو هذا جزءاً يسيرا من المعارف الجمة التي تملكها. وكان جواب هيبياس: الجميل هو فتاة جميلة، والفرس، والقيثارة، والقِدر، والذهب، بينما قال سقراط: هو شيء لا يبدو قبيحا في نظر أي إنسان في أي زمان ومكان، فيما فسر هيبياس هذا الكلام بقوله "ان أجمل

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

مطلع الشهر المقبل.. انطلاق معرض العراق الدولي للكتاب

بغداد/ المدى تنطلق فعاليات الدورة الخامسة من معرض العراق الدولي للكتاب، في الفترة (4 – 14 كانون الأول 2024)، على أرض معرض بغداد الدولي.المعرض السنوي الذي تنظمه مؤسسة (المدى) للإعلام والثقافة والفنون، تشارك فيه...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram