انتحيت بالفنان الكبير حقي الشبلي جانبا من بلاتوه المؤسسة العامة للسينما والمسرح ـ وكان المخرج فيصل الياسري يتهيأ لتصوير اللقطات الاولى من فيلمه الجديد "النهر" ـ وسألته عن دوره في الفيلم فأجابني بتلقائية رجل خبر أمور الحياة جيدا: ـ لا ادري! ثم استدرك ليستفسر من المخرج عن مضمون المشهد الذي سيصورونه بعد لحظات،
وضحك الجميع. في البلاتوه اعد مهندس الديكور ابراهيم محيي الدين هيكلا داخليا لبيت ريفي بسيط: سرير عتيق وكرسي وجدران طينية عليها بعض الصور والاحجية الدينية مما اعتاد على تعليقها ابناء الريف فيما سبق. كان فيصل الياسري يتحرك كعادته لانجاز العمل بأقصر وقت ممكن. طاقم الفنيين من الاكسسوار الى الانارة توزعوا في مختلف اركان البلاتوه.. يضبطون كل صغيرة وكبيرة. وتسمع صوت المخرج وهو يتحدث مع مدير التصوير نهاد علي والمصور طالب امين: "اريد للمشهد ان يؤخذ من هذه الزاوية" ويصعد على مقعد وراء الكاميرا الضخمة (يصور الفيلم بعدسة السينما سكوب)، وتضاء البروجكترات.. ضوء (فلات).. دون الاعتماد على دقة (اللايت ميتر). كان الفنان حقي الشبلي قد خرج للتو من تحت (رحمة) الماكيير الذي لون وجهه بـ (بشرة) اخرى، ثم ارتدى (دشداشة) شعبية و (عرقجين) على الرأس. وفي انتظار المباشرة بالمثول امام الكاميرا جرى الحوار: *استاذ حقي.. سألتك قبل قليل عن دورك في "النهر". وبنفس صراحته المعهودة اجاب: ـ مشاركتي هذه تستطيع ان تسميها (خاصة). رغم صغر الدور الذي اضطلع به الا انك تجد فيه نفسا طيبا واداء جميلا. صدقني انني سعيد بهذه المساهمة المتواضعة فقد كنت اتمنى العودة الى السينما منذ زمن طويل. *ومتى كانت المرة الاخيرة التي وقفت فيها تحت الاضواء؟ ـ كان ذلك في عام 1945 في فيلم "القاهرة ـ بغداد". يضحك الفنان الكبير وهو يعقب: "في هذا الفيلم لعبت دور الشاب (العريس) المتوقد حيوية وها انت تجدني قد اصبحت شيخا كبيرا في "النهر". ان دوري الجديد هو دور انساني لرجل جرب الحياة بحلوها ومرها وخبرها بطولها وعرضها. *وما علاقة الممثل سامي قفطان بك في هذا المشهد الصغير الذي يسجل عودتك الى الفن بعد انقطاع طويل؟ ـ سامي يلعب شخصية صالح الذي يجيء لي لطلب المساعدة والمشورة حول خطأ جسيم ارتكبه انسان عزيز عليه وأدى به الى السجن؟ ينادي فيصل الياسري وقد تهيأ الجميع لتصوير اللقطة المطلوبة: "استاذ حقي.. نحن جاهزون!". يعتذر الفنان هو ينهض ليقف امام الكاميرا.. يستمع بانتباه الى توجيهات المخرج. رغم فارق السن وسعة التجربة الفنية بين الاثنين الا ان الشبلي ينصت كممثل ناشئ لارشادات الياسري.. "تقف هنا.. يلحق بك سامي وتتبادلان العبارات التالية عند هذا الباب".. "هكذا؟".. "هكذا". وتجري البروفة، ويعود حقي الشبلي ليستكمل حوارنا ريثما تنتهي بعض الترتيبات الاخرى للمشهد المطلوب. معنا فنجانا قهوة.. وعن السينما مرة اخرى كان السؤال: *استاذ حقي انت الان في (معمعة) العمل السينمائي ما رأيك بهذا الجو المشحون بالحركة؟ ماهو انطباعك الشخصي؟ ـ اقول لك بصراحة: انني افضل المسرح. ليس لانني درسته او انه اختصاصي الرئيسي بل لانني اجد ان الارتباط الروحي بين الممثل والجمهور في المسرح اكثر منه في السينما. انني اشعر بالاندماج في الاداء على المسرح، اندماجا حقيقيا يحفزني لان اعمق عطائي واطوره. ان التعامل مع الكاميرا يختلف.. العطاء هنا يحدده (زمن) تسجيل اللقطة المعينة. غير انه من باب الانصاف والحق اقول بان للسينما او للتلفزيون ـ باعتبارهما وسيلتين سمعية بصرية لا تتحد بجغرافية المكان ـ قاعدتهما الجماهيرية العريضة، تلك مسألة لا يستطيع انكارها احد. اما المسرح فانه يمتاز بـ (محدودية) انتشاره وكذلك مشاهديه في القرية او في المدينة. *هناك ايضا علاقة مباشرة او غير مباشرة بين وسائل الاتصال هذه... اعني فيما يتعلق بتوجهاتها واهدافها الاعلامية والثقافية والتربوية.. الخ. ـ بالضبط. مثلا في السينما والمسرح تجد ان هناك علاقة (تعاون) ما في الموضوعات والافكار المطروحة فكثير من المسرحيات العربية والعالمية المعروفة تحولت الى الشاشة. وهذا يعني انها تجاوزت حدود رقعتها الجغرافية عندما كانت اعمالا لجمهور المسرح.. لتخاطب جمهورا اكبر في اماكن اخرى. ان في السينما والمسرح او التلفزيون تساهم كوسائل اتصال في اغناء التذوق الجماهيري للاعمال الفنية والادبية الراقية، وتعمل باتجاه هدف اعلامي وثقافي وتوجيهي مكرس لصالح المجموع. *نعود الى "النهر" انت ضيف شرف في الفلم.. والجمهور سيسر لمشاهدتك. هل ستتكرر التجربة ثانية؟ ـ لقد استجبت لطلب المؤسسة العامة للسينما والمسرح للقيام بهذا الدور القصير، استجبت لانني اعتز بهذه المؤسسة التي تحترم ثقافتنا، وقد كان لي سابقا شرف تأسيسها فلابد لي من تشجيعها والمساهمة بجهدي المتواضع في بعض انشطتها ونتاجاتها وبما يسمح به وقتي وصحتي. تسألني هل أكرر التجربة؟ ينظر الفنان الشبلي الى جموع الشباب التي تتحرك كخلية نحل، يصمت للحظات كأنما يستعيد صورا من ماضيه الفني العريض ثم يضيف: "اذا اتيح لي المجال فسأكرر التجربة.. اريد ان اقدم نفسي الى الجمهور بدور
حقي الشبلي في فيلم (النهر) .. حديث عن السينما وأشياء أخرى
نشر في: 9 ديسمبر, 2009: 04:13 م