محمد سعيد الحبوبي شاعر مجيد، غني عن التعريف، نظم الشعر في صدر شبابه وابان نشأته، ثم هجره. والسبب الذي الجأه الى ترك الشعر انه كان يحضر مجلس احد العلماء لطلب العلم فعرضت مشكلة اصولية احتدم حولها الجدل بين الحبوبي واستاذه، كل منهما يتمسك برأيه وينافح عنه، واخيرا قال له الاستاذ ما معناه: اين انت من هذا! انما انت تحسن ان تقول (ياغزال الكرخ واو وجدي عليك)
وهو شطر من موشح رقيق للحبوبي، فتألم من قوله، وعده تنقصا وازدراء فترك الشعر. هذا ما سمعت الصديق (سعد صالح) يرويه، وهو ثقة في هذا الباب لانه من ابناء النجف، ولانه شاعر، ولانه ادرك الحبوبي نفسه، ومن جمع هذه الصفات لابد ان يكون محيطا باخبار الشعراء النجفيين ونوادرهم ولاسيما معاصريه منهم.. والذي يبدو لي من مجرى الحديث او الذي استنتجته منه ان الحبوبي كان هو المصيب فيما ذهب اليه، وانه كان على حق في جداله وتمسكه برأيه، وانه كان الحن بحجته من الاستاذ وان الاستاذ حين رأى نفسه محرجا اراد ان يجد بجدله مخرجا ينتشله مما هو فيه، وان يرمي الطالب بسكاته، ويوصد باب الجدل في وجهه فجابهه بتلك الكلمة الساخرة، وكم من كلمات مثلها قضت على كثير من المواهب!. ارى ان الاستاذ والتلميذ كليهما ملومان، وانهما كليهما جنيا على الادب، ذاك تسبب في اسكات شاعر لو ظل يمارس الشعر لاغنى الادب بشعره، ولكان له في عالم الشعر شأن اي شأن، وهذا اسكتته كلمة كان في وسعه ان يتغاضى عنها، وحملته على ان يقضي على موهبته الشعرية فيخمد جذوة حسه، ويكبت اوار شعوره، ويعق الشعر بغير ذنب اقترفه، ولا جريرة جرها يستحق ان يؤاخذ عليهما هذه المؤاخذة القاسية. وانا، بعد هذا، اشك كل الشك في ان شاعرا حساسا، متقد العاطفة ملتهب الشعور يقوى على ان يكبح جماح عاطفته ويذرها سجينة تجيش في نفسه دون ان تجد لها منطلقا الى عالم الشعور. اتمنى ان تقيض لي الايام من يبدل شكي يقينا اما بأن يثبت بالحجة القاطعة ان الحبوبي لم ينظم من الشعر – بعد ان صمم على هجره – مما ينفس به عن الضيق النفسي الذي يولده جيشان الشاعرية وثوران العاطفة، واما بأن يؤيد انه استجاب لداعي عاطفته وشعوره فنظم دون ان يستطيع لسلطاتهما ردا، فمن هو ياترى؟!.. الادب والمادة على ذكر الصديق (سعد) وعلى ذكر الشعر ترجع بين الذاكرة الى سنة 1930، فقد صادفته ذات يوم وبيدي كتاب ادبي فبادرني سائلا: ما هذا؟. -كتاب في الادب. -اما كفاك! اترك هذا ووجه وجهك شطر ناحية مادية تجدي عليك. وبعد اعوام حفلت باحداث جسام تقلب خلالها بين المحاماة، والنيابة، والادارة، والوزارة اصيب بمرضه العضال الذي اودى بحياته فخسرت البلاد بموته سياسيا جريئا، وخسر اصدقاؤه صديقا ودودا.. ولما شعر باليأس من الشفاء لم يجد حمى يلجأ اليه، ولا الفا يبثه لواعج اشجانه، ولا حميما يفضي اليه بذات نفسه الا الشعر، فجمع بين آماله وآلامه، وبين ارائه وخوالج عاطفته واودعها (اشباحه الثلاثة).. هذه القصيدة ذاع ذكرها قبل وفاته، ولما زرته بعد سماعي بها رأيته في وضع صحي سيئ وان كان يبدي تجلدا وصبرا، ويظهر قوة وشجاعة في لقاء الموت، حتى انه اعتذر الى زائريه عن ان يستقبلهم واقفا، لان المرض اقعده فلا يستطيع ان ينهض قائما من مكانه.. اذ ذاك تذكرت قولته لي، وهممت بأن اذكره بها، واقول له: انك جفوت الادب اعواما مديدة، ونحوت نحوا ماديا فعملت محاميا، ثم انصرفت الى النيابة والادارة والوزارة. ونصحتني ان اترسم خطاك فاتبعها في حياتي، ثم انك لم تجد، الان، من يصغي الى شكواك، ولا من يتسع لتسجيل اهاتك واناتك الاّ الشعر. هممت ثم عدلت خشية ان اسبب له شيئا من الالم، فأنا لا ادري ماذا سيكون وقع كلامي في نفس مريض عز عليه الدواء، ويئس من الحياة، واصبح في حاجة الى ما يخفف عنه اعباء السقم، والى ما يريحه، ويسليه، لا الى ما يحتمل ان يسبب له عسرا يضيق به صدره.. غرام في غير محله في الحرب العالمية الاولى تمكن الجيش العثماني من ان يقف في وجه الجيش الانكليزي فيحول دون زحفه الاول الى بغداد، ثم حاصره في الكوت حصارا دام امدا طويلا حاول خلاله مرات عديدة ان يفك طوقه ويفلت منه فلم يفلح، حتى اضطر الى رفع العلم الابيض فاسره الجيش العثماني. وقيل: ان عدده كان ينيف على ثلاثة عشر ألفا، فأقامت البلاد العثمانية ولاسيما العراق حفلات كثيرة اعلنت فيها مسراتها وافراحها، وانطلقت السنة الشعراء واقلام الكتاب بهذا النصر المؤزر، وتثني على بسالة الجيش العثماني.. من تلك القصائد، او من ذلك السيل الشعري المتدفق قصيدة لا اتذكر الان لمن كانت بل اتذكر منها بيتين علقا بذهني لنشوزهما عن الغرض الذي دعا الى نظم القصيدة، فقد شاع ان بين اولئك الاسرى سيدات واوانس انكليزيات،، وبيدو ان هذا النبأ استهوى صاحبنا، وحرك في نفسه عوامل الوجد والغرام، وايقظ فيه دوافع الشوق والحنين الى الغزل والنسب وربما كان شعوره هذا تنفيسا للكرب الذي اورثته إياه تلك الحرب الضروس، فلم يتمالك ان قال: تهادى بينهم تلك العذارى مهفهفة المعاطف والخصور وكم قمر منير لندني فواشوقاه للقمر المنير تاريخ بارع في محرم 1333 للهجرة المصادف تشرين الثاني 1914 للميلاد، اي في اوائل الحرب العالمية الاولى طغى نهر دجلة فأغرق الجهة الشرقية من جانب الرصافة، وهو طغيان في غير موسمه، لان هذا النهر ورافده (الفرات) يفيض
من اوراق مصطفى علي : هواجس ساخنة .. لماذا هجر الحبوبي الشعر؟
نشر في: 13 ديسمبر, 2009: 04:06 م