عبد الله المدني لم يكف نظام "كيم جونغ إيل" الستاليني الحديدي الحاكم في بيونغيانغ أنه حرم الشعب الكوري الشمالي من أبسط حقوقه الآدمية، وعزله عن العالم عبر حرمانه من التعاطي مع الانترنت وثورة تكنولوجيا المعلومات، بل وأيضا حرمانه من أجهزة الترانزستور والأقراص المدمجة وأشرطة الفيديو.
ولم يكفه أن قاد شعبه إلى المجاعة، وحال دونه ودون الوصول إلى مستويات المعيشة الراقية التي يتمتع بها إخوته في الشطر الجنوبي، ممن حولوا بلدهم خلال ثلاثة عقود فقط من بلد فلاحي متخلف يكاد لا يذكر اسمه في الأدبيات الآسيوية والمحافل الدولية إلى واحدة من دول آسيا الصناعية العملاقة. كما لم يكفه أنه أنفق ثروات الشعب الكوري الشمالي على صناعة أسلحة الدمار والقتل والقيام بعمليات التخريب والمماحكة الطائشة مع جاراته ضمن شعارات وسياسات جوفاء. وبالمثل لم يكفه أنه تجاهل تماما النموذج المضيء في الإصلاح والتنمية والصعود الذي تبناه حليفه الآسيوي الوحيد في بكين. بل أخذ من الصينيين فقط كل ما صار عبثيا وقديما ويرمز إلى حقبة المعلم "ماو تسي تونغ" السوداء التي ولت ولن تعود ، مثل الاستعراضات العسكرية، والمهرجانات الجماهيرية المكلفة، وسياسة عبادة الشخصية، ونشر الصور الجدارية العملاقة، وفرض الزي الموحد على البنين والبنات، وتحريم مختلف مظاهر الفرح، بحجة تعارضها مع ثقافة وهوية الأمة. فضلا عن استعارته التقليد الصيني القديم في إجبار أفراد القوات المسلحة (يزيد عددهم على 1.1 مليون نسمة ويعتبرون الدعامة الأساسية للنظام) على ارتداء قمصان تبرز من ياقاتها دبابيس مدببة، من أجل أن تكون أعناقهم ورؤوسهم مرفوعة بزاوية واحدة موحدة أثناء الاستعراضات العسكرية، فإن طأطأ أحدهم رأسه بنصف درجة أو أقل انغمست تلك الدبابيس في عنقه مسببة سيلان دمه على بزته، وبالتالي تعرض إلى عقاب عسير. لم يكف نظام بيونغيانغ كل هذا وغيره من المهازل، فتفتق ذهنه مؤخرا عن قرارات عبثية جديدة تتعلق بفرض المزيد من القيود على ما تبقى من حريات شخصية في المجتمع. وملخص الحكاية أن الرفيق "كيم جونغ إيل " حضر في 4 أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم مباراة في كرة القدم ما بين فريقي جامعتي "كيم إيل سونغ" و"بيونغيانغ"، فبدا ساخطا ومنزعجا من طول شعور اللاعبين، وأعرب للمحيطين به عن أسفه لأنه لم يميز إن كانت المباراة ما بين طلبة جامعيين أو طالبات جامعيات. ومن هنا سارع بعد انتهاء المباراة إلى تجنيد الوسائل الإعلامية كافة التابعة للدولة والحزب من أجل إطلاق حملة شعواء ضد الشعر الطويل وأصحابه تحت شعار "دعونا نحلق شعورنا على الطريقة الاشتراكية"، وفرض نمط معين من قصات الشعر على المواطنين الذكور بحيث تكون شعورهم قصيرة من الخلف والجانبين ومسطحة من الأعلى، وبحيث يتراوح طول الشعرة الواحدة ما بين 1 -5 سنتمترات، مع استثناء من بلغ من العمر خمسين عاما (يسمح له أن يطيل شعره إلى 7 سنتمترات). إلى ذلك أشارت الحملة التي غطت تعليماتها واجهات المطاعم ، وصالونات الحلاقة، والمتاجر الكبرى الخالية من البضائع، وأعمدة الكهرباء، وأسوار الملاعب الرياضية، إلى ضرورة أن يحلق الرجال الكوريون شعورهم كل 15 يوماً. ولم ينس نظام بيونغيانغ أن يوجد الحجج والمبررات لهذه الحملة البائسة. فالشعر الطويل، فضلا أنه "لا يتوافق مع مبادئ الاشتراكية الماركسية، ومجرد ألعوبة من ألاعيب العدو الامبريالي للتغلغل في المجتمعات الاشتراكية وتخريبها" - بحسب الفرمان الصادر من حزب العمال الحاكم والذي نشرته على صدر صفحتها الأولى صحيفة "مينجي تشوسون" الرسمية، فإنه يعطي انطباعا قبيحا عن ذوق صاحبه وسلوكه و هويته، ناهيك عن أنه "يسحب كمية أكبر من الأوكسجين من دماغ المرء فيتسبب في ضعف ذاكرته وتراجع مستوى ذكائه". ولا نود هنا الدخول في سجال حول الأسباب الصحية المذكورة في الجزئية الأخيرة، لأنها لا تصمد لحظة واحدة، وإلا لما تمتعت المرأة (صاحبة الشعر الطويل عموما) بأي درجة من الذكاء و قوة الذاكرة. لكننا سنستطرد لنقول أنه على حد علمنا فإنه لم يسبق لكارل ماركس أو أي من رفاقه أو كل من طبق الماركسية في الإتحاد السوفيتي السابق ودول أوروبا الشرقية أن قال بعدم توافق الشعر الطويل مع مبادئ الاشتراكية الماركسية. بل العكس هو الأقرب إلى الصحة، بمعنى أن الماركسية سبقت غيرها لجهة منح الناس مساحات واسعة فيما يتعلق بحرياتهم الشخصية، ومن بينها حرية اختيار الملبس والمأكل وأنماط الترفيه والتمتع بمباهج الحياة. وعليه، فان قرارات بيونغيانغ ليست سوى محاولة إضافية لخنق الكوريين الشماليين وتشديد الرقابة عليهم خوفا من هبوب نسائم الحرية والانعتاق من الستار الحديدي المفروض عليهم منذ أكثر من نصف قرن. والجدير بالذكر أن هذه القرارات ليست جديدة، فقد سبقتها قرارات مماثلة في أعوام سابقة حول الشعر و أمور أخرى متعلقة بالمظهر مثل تنانير الفتيات وأحذية الرجال وقبعاتهم، لكنها لم تؤت ثمارها المطلوبة. ففي عام 2005 مثلا، أصدرت بيونغيانغ قرارا بمنع الأجانب ممن يطيلون شعورهم من دخول البلاد كيلا يتأثر المواطنون بأشكالهم فيقلدوها. وفي عام 2007، كان
دعونا نحلق شعورنا على الطريقة الاشتراكية
نشر في: 13 ديسمبر, 2009: 04:25 م