فوزي كريمقال عنها الشاعر يفتِشينكو، في الانتولوجيا الضخمة التي أعدها للشعر الروسي، بأنها "شلال نياغرا جليل من العاطفة، الألم، الاستعارة، والموسيقى". ترجمةُ قصائدها إلى الإنكليزية لم تُضعف دويّ الشلال إلا بمقدار. ولقد تُرجمت مراتٍ عديدة.
إنها الشاعرة الروسية مارينا تسفيتاييفا (1892-1941)، التي تستقر مختاراتُها الجديدة بين يدي: "عروسُ الثلج: قصائد مُختارة"(صدرت عن دار كاركنيت، لندن،2009)، والتي أعدّت ترجمتَها الشاعرةُ الإنكليزية، من الأصل الروسي، إيلين فينستاين. فينستاين لم تترجم قصائد تسفيتاييفا عن الروسية مباشرةً، بل أعادت صياغتها عن ترجمات عدة، في قالب القصيدة الإنكليزية التي ارتأته. وهو أسلوبٌ مُعتمد في الترجمة الشعرية، وعادةً ما يتم على يد شاعر ذي مكانة، تُنسب الترجمة إليه جملةً. على أن فينستاين شاعرةٌ مولعة بتسفيتاييفا، منذُ سنوات بعيدة. وضعت عنها كتاباً مهماً في السيرة: "أسدٌ في الأسر"(1987)، كما ضمنتها في روايتها "أورشليم الروسية" (عرضت للكتاب على هذه الصفحات في مقال: "شعراء المحجّ الروسي"). محوران يشدّان شعرها لبعض: الحاجةُ القصوى للحب، والتوترُ بين الشعر ومهمات المرحلة. وكلا المحورين عاملُ أذى وعذاب، جعل من حياة تسفيتاييفا أيقونةً، عزّ نظيرها، لمقدار الضريبة التي يجب أن يدفعها الشاعر عن صدقه، في العصر الإيديولوجي. ولدت في عائلة معنية بالفن: أبٌ مؤسس لمتحف الفنون الجميلة، وأمٌ عازفةُ بيانو ماهرة. وهي جذوةُ لهب شعري، لا تُقرن في طاقة التفجر إلا بماياكوفسكي. وإذا ما انصرف تفجرُ ماياكوفسكي إلى الثورة، فتفجّرها انصرف إلى الحب. ولكن لا على هوى الشاعرةِ إخماتوفا المعاصرة لها. فحبُّ هذه كان متوازناً، مُشبعاً بتطلّع وأسىً رفيقين، رقيقين. في حين كان هواها عاصفاً، غيّر من جذرِ قصيدة الحب الروسية، ومن جذر معاني التطلّعِ والأسى المألوفين. أحبت سيرجي إفرون، الكاتب والممثل، وتزوجت منه (1912). التحق بالتجنيد في مرحلة الحرب الأهليه عام 1914، فوجدت تسفيتاييفا نفسها في أحضان حبٍّ جديد، ولكن مع شاعرةٍ من جنسها، هي سوفيا بارنوك. أنجبت من زواجها طفلتين أودعتهما في دار للأيتام، على أثرِ عاصفةِ المجاعة التي ألمّت بروسيا في عامي 19-1920. حتى أن إحدى الطفلتين توفيت من الجوعِ هناك. فلم تفلت الشاعرةُ من أزمةِ الذنب، وإشاعاتِ الاتهام بالإهمال. في براغ، حيث التحقت بزوجها الأول، تعرّضت لحب خاطف جديد، هو الثالث. ثم الرابع في برلين. ثم الخامس مع الشاعر باسترناك، والسادس مع الشاعر مندلستام. وعقدت أملاً سابعاً على الشاعر ريلكة الذي لم تره، بل قرأ لها قصائد أرسلتها له، وهو على سرير مرضه الذي مات فيه. كتبت له: "عزيزي رينر، هذا هو المكان حيث أعيش. هل مازلت تُحبني؟ مارينا". وكل تطلّعات الحبّ هذه، ما تحقّقَ منها وما لم يتحقق، أثمرَ قصائد رائعة. قصائدٌ لا تكتفي بأن تُطلَّ على كيان تسفيتاييفا المضطرب الظامئ الداخلي. بل على الكون المضطرب الظامئ للحقيقة، خارجها. ولقد كانت المرحلةُ التاريخية لا تقيم وزناً للإنسان الشاعر، ولا للقصيدة، إلا باعتبارهما وسائل لمُعترك من أجل "فكرة"، لم يعرف أحد مقدارَ صحتها. ظلّت الشاعرةُ كياناً مهجوراً. تكتب من باريس لصديقة لها: "في باريس، مع استثناءات جد شخصية، يكرهني الجميع. يكتبون كلَّ ما يخطر لهم من بذاءات عني..". حتى ابنتها، التي كانت قريبةً منها ذات يوم، فضّلت العيشَ مع أبيها. ومنافي المهاجر الأوربية لم تُمكّنها من مصدرِ رزقٍ واحد. الصحفُ التي كانت تنشر لها قاطعتها. حاولت التشبثَ بالبقاء في مدينة براغ، إلا أن الاحتلال النازي عام 1939 حال دون ذلك، فاضطرت مع ابنها وزوجها السابق إلى العودة روسيا. لم يحذّرها صديقٌ من موجة الرعب الستالينية التي اجتاحت روسيا في منتصف الثلاثينيات. حين وصلت لاحقتها الأخبارُ المفاجئة: زوجها اعتقل في الحال وأُطلق عليه الرصاص فوراً. أختها اعتقلت وسُجنت. ابنتها وابن أخيها اعتقلا وأُرسلا إلى الأشغال الشاقة. ماندلستام اعتُقل وقُتل. معظم أصدقائها المقربين تحاشوا لقاءها، باسترناك وإخماتوفا ضمناً، بفعل المحاذير. على أثر الاحتلال الألماني مُنحت فرصةَ السكن في منطقة نائية، في جمهورية التتار. في كوخها البائس، وفي تاريخ 31/8/1941، علّقت نفسها بحبل.
من البرج العاجي: عروس الثلج (2)
نشر في: 13 ديسمبر, 2009: 06:18 م