فريدة النقاشاندفعت جماهير مسلمة ومسيحية بالآلاف في اتجاه كنيسة الوراق كانت قد ترددت شائعة أن السيدة العذراء تجلت فيها قبل أيام، وجاء بشر نساء ورجالا وأطفالا من القرى والبلدات المجاورة لتشفع السيدة لهم وليقدموا لها سرا وجهرا شكاواهم ويعبروا عن ألمهم بعد أن ضاقت بهم السبل.
 وكان مشهد قريب من هذا قد تكرر قبل أكثر من أربعين عاما حين قيل إن السيدة العذراء قد تجلت أيضا في كنيسة بالزيتون بعد عام من هزيمة يونيو/ حزيران 1967 التي انكسرت فيها الجيوش العربية أمام العدو الصهيوني الذي احتل أراضي ثلاث دول منها. وتأتي الواقعة الجديدة بعد أسابيع قليلة من عملية الشحن العدواني التي قام بها الإعلام متضامنا مع سياسيين وشخصيات عامة من البلدين الجزائر ومصر بعد اعتداء مشجعين جزائريين على مشجعين مصريين في مباراة الخرطوم المؤهلة للاشتراك في كأس العالم. ويكاد يجمع الباحثون وعلماء الاجتماع والمواطنون الذين استهجنوا الحالة الغوغائية التي انطلقت في البلدين على أنه قد جرى افتعالها وتأجيجها بذكاء لتغطي على الاحتقان السياسي الاجتماعي فيهما معا حيث اتسعت قاعدة الفقر والبطالة خاصة بين الشباب وفاحت رائحة الفساد الذي تحول إلى مؤسسة في البلدين وأصبح هو القاعدة في كل من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ومن المفارقات الساخرة أن الجزائر ومصر تعادلتا في حجم الفساد طبقا لتقارير منظمة الشفافية العالمية وجاء ترتيبهما معاً قرب آخر البلدان التي جرى قياس الفساد فيها والذي أدى انتشاره إلى هروب المستثمرين وتدهور الأحوال. وتنهض شواهد كثيرة ولها تاريخ على ضلوع النظم الحاكمة من غالبية البلدان العربية في هذه اللعبة الخطرة التي تستخدم كلا من المشاعر الوطنية الزائفة والدين في السياسة وتتلاعب بالمشاعر الدينية للملايين اليائسة التي تنغلق أمامها طرق التقدم والاستقرار نتيجة للسياسات الطبقية المنحازة لكبار الرأسماليين وتحالفها مع الاستبداد السياسي الذي يقف حائلا بين هذه الجماهير وبين العمل المنظم من أجل تغيير واقعها البائس. وقد أدى زواج الفساد والاستبداد وحالات الطوارئ المفروضة بصفة دائمة في غالبية البلدان العربية إلى عجز الأحزاب الديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني عن الوصول المنظم السلس إلى هذه الجماهير وتعبئتها من أجل الدفاع عن مصالحها الحقيقية بصورة جماعية، وهكذا انفتحت الأبواب أمام القوى السياسية التي تتلاعب بالدين وتنشر أفكارا التطرف والتكفير وتعبئ الشباب اليائس الباحث عن طريق بدعوى أنها ترشده إلى الجنة. وكما يسجل التقرير الثاني عن الحريات في الوطن العربي لمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان الذي صدر قبل أيام بعنوان (واحة الإفلات من المحاسبة والعقاب)، فقد تزايدت حدة الاحتقان الطائفي في مصر بسبب تنامي مشاعر التعصب الديني وتوظيف الدين في العمل السياسي من كل من الحكومات وجماعات الإسلام السياسي. وتقاعس الحكومة عن معالجة العديد من المشكلات المزمنة التي تكرس التمييز ضد الأقباط وغيرهم ما تصوروا. وربما كان هذا سببا إضافيا في اندفاع الآلاف من المسيحيين نحو ما تصوروا أنها السيدة العذراء. ويسجل التقرير أيضا أن حكومات عربية تسعى لترميم شرعيتها بتوثيق أواصر التحالف مع السلفية غير المعارضة لها مما يترتب عليه تعزيز التطرف الديني وتوقع المزيد من تدهور حقوق الإنسان. كان الدكتور سيد عويس عالم الاجتماع الراحل قد درس قبل ما يزيد على الأربعين عاما رسائل بالآلاف قام مواطنون استهلكهم الفقر والجهل والمرض وانسداد الأفق بكتابتها إلى أولياء الله الصالحين يشكون حالهم وكلهم أمل أن يأتيهم الفرج من السماء لأنهم خاطبوا هؤلاء النورانيين، وما أشبه الليلة بالبارحة إن الجماهير التي اندفعت إلى الكنيسة لتلتمس عونا من السيدة العذراء التي شبه لهم أنها ظهرت لتنتشلهم، لا تختلف كثيرا في تكوينها النفسي ودوافعها العميقة عن تلك الجماهير التي جرى حشدها لتصب غضبا عظيما على الجزائر حكومة وشعبا وإن اختلفت بعض الأسباب هنا وهناك. فهل سوف تنجح هذه الألاعيب الشريرة كلها لزمن طويل قادم من الإبقاء على حالة التعتيم على وعي الجماهير، وإلحاق المزيد من التشوهات بهذا الوعي، والنجاح في تصريف الغضب الشعبي في اتجاهات خاطئة، سواء في مباريات كرة القدم أو التماس العزاء في الكنائس و الجوامع أو ممارسة العنف الديني بعيدا عن الداء الأصلي ألا وهو مجموعة السياسات الاقتصادية الاجتماعية التي وصلت بنا على أجنحة الفساد والاستبداد إلى طرق مسدودة. تقول لنا خبرة التاريخ إن لكل شيء آخر وإن وعي الشعوب بحالها ينضج ببطء لكنه يصل في آخر المطاف إلى الطريق الصحيح، وإن طال أمد هذا الوصول.