جاسـم العايـففي بداية الشهر الرابع عام 1964 مَثلنا أمام المجلس العرفي العسكري الأول، الذي عُقدتْ جلساته بمقر"القاعدة البحرية" في البصرة ، وبعد أن أدخلونا في قفص الاتهام ، اتهمنا المدعي العام العسكري عن ممارستنا لـ "نشاط شعوبي - هدام" خلال أعوام 1960-1962 ،
ودون أدلة، كنا أعوام"الاتهامات" طلاباً في المرحلة المتوسطة. خلال دقائق أنزلت بنا عقوبة السجن لمدد مختلفة . مساءً حُشرنا في عربات حِمل "القطار الصاعد إلى بغداد" ثم أنزلونا صباحا ، مقيدين، في مدينة "الحلة" وألقوا بنا في سجنها . يقوم عادة السجناء السياسيون بتنظيم حياتهم اليومية و تختفي في السجن الأوضاع الاجتماعية الخاصة، إلى حدٍ ما. ولمواجهة أيام السجن البائسة ولياليه الموحشة ، و لاستمرار العيش فيه بطريقة منظمة، ينعكس مستوى الدرجات الحزبية في الخارج على الحياة داخله من ناحية المهمات وممارسة المسؤوليات فيه، إذ ثمة لجنة قيادية - سياسية عليا، تتفرع عنها لجان أدنى تعمل على تسيير شؤون الحياة اليومية في الداخل ، من خلال اللجان الفرعية،أهمها: لجنة العلاقات العامة المختصة بالتعامل مع إدارة السجن والجهات الرسمية الأخرى، ولجنة الاحتفالات بالمناسبات الحزبية والوطنية والأممية ، ما أكثرها في ذلك الوقت!!، ولجان للطبخ و للصحة والخدمات والرياضة، واللجنة الثقافية بشقيها السياسي والأدبي - الفني. صحف السلطة تصلنا يومياً، أما الصحف السرية ووثائق التثقيف الحزبي فتصل بين حين وآخر، عبر شبكة سرية تعتمد العوائل خلال المواجهات التي كانت في بداية كل شهر ومنتصفه، وكذلك بمعونة بعض السجانين المتعاطفين، أو ممن لديهم أخوة وأبناء وأقارب داخل السجن.الكتب بأنواعها تصل عن طريق المتعهد الذي يرسل في كل أسبوع او اقل عربة تضمّ عشرات الكتب والمجلات الحديثة من إصدارات دور النشر اللبنانية والمصرية. في أواسط عام 1964 بدأت الصحف تكتب عن الحالة الصحية المزرية والمرض الفتاك الذي ألم بالشاعر "بدر شاكر السياب"، نحن المهتمين بالأدب والفن والثقافة شُغلنا بذلك ، ومع قلة عددنا إلا أننا كنا معروفين بين السجناء بنشاطنا الثقافي - الأدبي- الفني، ومن الأسماء المعروفة في سجن(القلعة القديمة)، التي تسمى بـين السجناء: (القلعة الخامسة) لسبب أجهله حتى اللحظة، الشاعر فاضل العزاوي والشاعر حسين الرفاعي والكاتب والقاص خليل المياح ، والصحفي عمران رشيد عمران ، والفنان إبراهيم دراج، والشاعر الشعبي المبدع المرحوم مجيد الخيون وآخرون. وفي السجن ذاته، ثمة (القلعة الجديدة) وهي بناية حديثة البناء و مفصولة بجدار عازلٍ عالٍ، عن شقيقتها(القلعة القديمة/ الخامسة). وفي (القلعة الجديدة) ثمة بعض مَنْ يهتم بالنشاط الثقافي والفني والأدبي وفي مقدمتهم أستاذي- في مرحلة الدراسة المتوسطة، الدكتور لاحقا، المرحوم هاشم الطعان، والفنان التشكيلي هادي الصكر والصحفي والمترجم حسين فوزي الجاسم، وتعود معرفتي بهما لأيام موقف مركز شرطة منطقة البصرة القديمة عام 1962 ، والمخرج المسرحي قاسم الشبلي،وآخرون لا تسعفني الذاكرة الآن على تذكرهم . لقد كتب الشاعر فاضل العزاوي روايته (القلعة الخامسة) مستوحياً أحداثها من الحياة اليومية في ( القلعة القديمة/الخامسة) وخارجِها ، كما أفرد لها فصلاً مطولاً في كتابه (الروح الحية). بعد وفاة بدر شاكر السياب في 24 /12 / 1964، و في أوائل عام 1965 كنت مع الشاعر فاضل العزاوي، نتجاذب أطراف الحديث همساً، في وقت متأخر من الليل، وكنا عادة نقرأ ليلاً وربما حتى الصباح ، والاستغراق في النوم لما بعد الظهر، قلت له: لماذا لا نقيم أمسية خاصة ببدر شاكر السياب بعد وفاته!؟. وظل موضوع أمسية بدر مثار حوار متواصلٍ بين فاضل العزاوي و خليل المياح وبيني، بحكم العلاقة الوطيدة بيننا والاهتمامات التي نشترك فيها ، وكنا على دراية تامة بسلوك بدر وعلاقته المعقدة جداً بالطيف السياسي ،الشيوعي تحديدا، الموجود في السجن، وتقاطعه التام معه والذي وصل حد العداء، لا بل الاستعداء المشترك بينهما، لقد سعينا، ثلاثتنا، إلى الارتفاع عن الصغائر والخلافات الضيقة ، وفضلنا عدم التعامل مع شخص بدر شاكر السياب شخصياً والذي خضع نهائياً لسلطة الغياب المادي المتمثل بالموت، وسيبقى بدر شاكر السياب الشاعر أرثاً ثقافياً كبيراً في خارطة الموروث الثقافي العراقي والعربي وحتى العالمي . كانت فكرة الأمسية في ذلك المكان والزمان، تعبر عن تحدٍّ لنمط من السلوك السياسي، كان سائداً حينها، و يضع المثقفين في خانة ((الخوارج)) والتذبذب والتهميش وحتى الاندحار وحاولنا استحصال موافقة قيادة التنظيم السياسي العليا في السجن حول هذه الأمسية، لما لموضوع بدر وتحولاته السياسية ، من حساسية ستؤثر جدا في الرأي العام داخل السجن . وحصلت موافقة لجنة التنظيم السياسي العليا على إقامة هذه الأمسية، بعد جهود بذلها أساسا العزاوي ، وكانت مشروطة بأن لا تُكرس تلك الأمسية لـ (بدر) فقط وان تكون مفتوحة ، ولا مانع من تخصيص محور خاص فيها لبدر الشاعر. تلك الموافقة ،مع شرطها، كانت بادرة طيبة كشفت عن جذور كامنة مهيأة للنمو في وجدان العراقيين وأعماقهم ، و
التأبين الأربعيني الأول للشاعر بدر شاكر السياب
نشر في: 18 ديسمبر, 2009: 04:44 م