لطفية الدليمي (الشهرة لا تجلب سوى التفاهة والخواء القاتل ) ياسوناري كاواباتا كاتبي الياباني الأثير هو النوبلي المنتحر ياسوناري كاواباتا، ترجمتُ له-بمتعة خالصة- روايته الأشهر بين أعماله (بلاد الثلج)، وصدرت في بغداد 1986، ثم ترجمتُ له عددا من قصصه القصيرة التي تبرز أسلوبه الأدبي الفريد ولغته الوجيزة وابتعاده عن استخدام الصفات،
وتركيزه على جوهر العلاقة الإنسانية وفتنة الطبيعة وعزلة الإنسان في عالم قاس، وتمجيده الجمال الصافي الذي قد يوازن بين حتمية الموت وشهوة الحياة، كل ذلك بتعبيرات غضة ويسيرة محاطة بالغموض. كان كاواباتا كاتبا تأمليا ذا نزعة حسية ولغة منحوتة بدقة واقتصاد، عاش منتشيا بالعزلة والكتابة وكارها للشهرة التي كان يتجنبها، يعيش في محترفه الصغير بعيدا عن فضول الآخرين وجحيمهم، غير أن الشهرة حلت عليه كاللعنة بعد فوزه بجائزة نوبل للآداب سنة 1968، زجه هذا الفوز في مأزق لم يكن يتوقعه، وهو الزاهد في الظهور الإعلامي والأضواء التي تحيل الإنسان الى سلعة تباع وتشترى، حتى إنه صرح أثناء ملاحقة الصحافة له بـ(أن الشهرة لا تجلب سوى التفاهة والخواء القاتل وتخترق حياة الكاتب على نحو غير إنساني). كان كاواباتا يقول: لا بد من أن يكون الأدب استمرارا عفويا لجمال الأشياء المحسوسة في هذا العالم، ومن أجل التوصل الى هدفه في جعل الأدب فعلا جماليا كاشفا عن التفاصيل الحسية للأشياء والطبيعة، أنشأ كاواباتا مدرسة أدبية أطلق عليها اسم "الحساسية الجديدة"، وهي تقوم كما يقول على "فن الوصف الشفاف لما يدعوه النقاد برهافة النفس اليابانية"، في استجابتها للانطباعات الجسدية التي تتركها ألوان العالم وأشكاله المتغيرة، وهو السّبّاق في هذه النزعة التي تبناها الروائي المصري (إدوار الخراط) في نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وأعلن هو ومريدوه من دون تمحيص تاريخي أنه أول من أطلق هذا النهج في الكتابة الإبداعية.. ويحيل كاواباتا إطلاق النزعة الحسية في الأدب الياباني الحديث الى الكاتب (يوكو ميتسو ريتشي) الذي تشارك معه خلال عشرينيات القرن الماضي، وبالتحديد سنة 1926، في إصدار المجلة الأدبية التي صارت صوتا للنزعة الحسية الأدبية الجديدة، ويطلق عليها في المصطلح الأدبي الياباني اسم (جماعة الإدراك الحسي الجديدة).. ولتعلقه بالفن الياباني والتقاليد الجمالية في بلاده واحترامه لشفافية الروح اليابانية حضر كاواباتا حفل تسلم جائزة نوبل بالزي الرسمي الياباني (الكيمونو)، وألقى محاضرة عنوانها «أنا واليابان الجميلة»، واستطاع من خلال المحاضرة إظهار جوهر الروح اليابانية، والأحاسيس اليابانية تجاه الطبيعة، واستهل كلمته بإلقاء قصيدة من الهايكو تقول: في الربيع زهر الكرز في الصيف طائر الوقواق في الخريف القمر وفي الشتاء الثلج صاف بارد.. وقال: (إن مثل هذه العلاقة الوثيقة بين الإنسان والطبيعة هي من أبرز سمات الأدب الياباني، فالطبيعة أيضًا من الدوافع الإيحائية للأدب، عندما نرى جمال الثلج وجمال القمر، وعندما نرى جمال الزهر المتفتح، وعندما نحس بجمال الفصول الأربعة حينئذ نفكر فى أقرب الناس إلينا، ونتمنى لو شاركونا متعتنا) في قصته شجرة الرمان أو الرمانة يبتدع من التشكلات العشوائية للطبيعة وحركة الريح دائرة من أوراق الشجر تحدق بشجرة راسخة وتحرك أحاسيس الجمال في الناظر، بينما يمضي الزمن مسرعا غير عابئ بالجمال العابر، وعمل في هذه القصة على رمزية ثمرة الرمان في الذاكرة اليابانية كثمرة حسية وعلامة على التشهي البشري الممزوج بالصبر واليأس. انتحر كاواباتا سنة 1972 في محترفه بوضع أنبوب الغاز على فمه دون أن يترك رسالة لأحد، فقد شاء أن يظلل الغموض سره وخياره الأخير ويدع فرصة التأويل للآخرين، كما فعل في أعماله الأدبية الرائعة القابلة للتأويلات متعددة الوجوه. أرهقت الشهرة الوافدة هذا الكاتب المحب للعزلة والجمال والروح اليابانية المشرقة، والذي قال بتواضعه الجم حين أخبروه بنبأ فوزه: (قد لا أكون جديرا بالجائزة، ففي اليابان أدباء أفضل مني، وأنا لم أنجز كل مشاريعي الأدبية بعد، وعلى أية حال أنا سعيد بها.) هل بوسع كاتب آخر في بلداننا أن يعتنق موقف كاواباتا ويشير إلى وجود أدباء أفضل منه وانه قد لا يستحق ما فاز به؟؟ اشك في ذلك، فحروب الجوائز مستعرة على نحو يفضح هزال النفس الإنسانية وجانبها المتوحش أمام المغانم..