TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > غروب هادئ حزين

غروب هادئ حزين

نشر في: 21 ديسمبر, 2009: 05:08 م

محمد خضير (في ذكرى الناقد عبد الجبار عباس) الغروب الدامي لحياة آلاف العراقيين، لن ينسينا الغروب الهادئ الحزين لحياة أفراد مبدعين انتزعهم الموت قبل الأوان. أستذكرُ غروب الناقد عبد الجبار عباس في الثالث من كانون الأول 1992، وأسـتبقي نظرات تعقبها عبرات لمن طوتهم الذكرى تحت ثرى كانون الرطب.
كان غروب الناقد عبد الجبار عباس غروباً منغّماً بحبكات نقدية، جمعها الدكتور علي جواد الطاهر بمشاركة من عائد خصباك في كتاب أصدراه بعد وفاته بعامين. في هذا الكتاب (الحبكة المنغّمة ـ 1994) يقرّظ الطاهر "فتى النقد الأدبي" بكلمات: ((حاز لقب الناقد بحق، ويكفي أنه وهب نفسه للنقد وحده، لم يشرك به عملاً آخر، ولم يشغل تلك النفس بوظيفة تقيده، فكان بذلك متفرداً بين من زاول النقد في العراق، وفي الوطن العربي، وهكذا يجب أن يكون الأمر، فالنقد الأدبي نشاط قائم بنفسه، إذا أُشرِك به جار الشريك على الشريك)). بالإضافة إلى تقريظ الدكتور الطاهر، فإن القيمة النقدية لمقالات عبد الجبار عباس التطبيقية تتلخص في الحكم المنسوب إلى ميشيل بوتور، ومعياره العلاقة المتبادلة بين "الحقيقة الروائية والحقيقة الواقعية". بهذا الشرط الجدلي انحاز عبد الجبار عباس إلى "نقاد الحقيقة" الستينيين وأعلامهم الكبار، لكنه انفرد عنهم بحقيقته الشخصية التي رفعت درجة الصدق الواقعي لمقالاته، وحررت أحكامه من قيود المناهج النقدية، وطبعتها بأداء تفسيري منغّم. أدرك عبد الجبار عباس ـ بحدسه المعرفي الشخصي ـ القيمة الفاصلة بين هوية النص الدلالية وهوية الخطاب الإبداعية، فملأها بعجينة متماسكة من الأحكام الانطباعية المشبعة بالتراكيب النغمية، فصلت خطابه عن الخطاب الأكاديمي لأشهر ناقدين معياريين: علي جواد الطاهر وعبد الإله أحمد. كان عبد الجبار عباس جسراً شامخاً ربط بين ضفتي النقد البلاغي والنقد التحليلي، وكان أداؤه اللغوي يكافئ جهداً مستقلاً ردم الهوة بين لغة البناء ولغة التحليل. فقد ينتهي خطابه التحليلي بما تنتهي به الحكايات التعليمية، وقد يندس حكم ملخّص بحكمة أخلاقية قصيرة، وقد تعترضك (نغمة) بليغة جامعة، كهذه العبارة عن رواية (شرق المتوسط): ((إن تعب الروح والجسد ـ للبطل ـ كان قد جزَّ جنح الخيال الروائي التركيبي)). إن افتقار الرواية لزمن محدد، ومكان محدد، وبناء متدرج، وزوايا نظر مختلفة، يعوضه هذا الحكم النقدي غير المحدد: ((لقد احتفظ دم رجب ـ بطل الرواية ـ بنكهة الظل الذي لا يستطيع السماح بالنسيان)). نالت روايات نجيب محفوظ نصيباً طيباً من ملاحظات عبد الجبار عباس، فهو يلاحظ ـ مثلاً ـ أن رواية (الكرنك) تفتقر إلى البناء العضوي، ولا تحتوي إلا على مجموعة شخصيات أو نماذج تُقدَّم عبر مجموعة حيل مكررة.. لكن هذا النقص التكنيكي الذي يهبط بالرواية إلى صف "الدرجة الثانية المحترفين" سيُعوَّض بحكم متناغم في إيجابيته وصياغته: ((أي ضير في أن يحلم ـ الروائي ـ حلماً جميلاً لا نصيب فيه للحقيقة الكالحـة التي يغمض عينيـه عنها؟)). بحث عبد الجبار عباس عن المستويات الدلالية العميقة التي تستوعب لغته المنغّمة بالرمز والتحليل النفسي، فوجدها في "الواقعية الشعرية" التي اتصفت بها أقاصيص فؤاد التكرلي، كما وجدها في "المزيج المتجانس من التصميم الواعي وابتكار الحياة الحر" في رواية (القربان) لغائب طعمة فرمان وفي "الرؤى والانعكاسات المختلفة" في رواية (السفينة) لجبرا. لم يخطط عبد الجبار عباس لانفصال كامل عن ذاكرة النقد الستيني، ولم يشرع في ارتحال بعيد عن أفق المفاهيم الراشدة في النقد العراقي الجديد، بعد أن نالت تغيرات الحياة التسعينية العنيفة من قلمه السيال. صارت مقالاته أكثر قصراً وتباعداً، ولم ينشر خلال العامين الأخيرين من حياته سوى سبع مقالات صحفية. وكانت آخر مقالة نشرها الناقد قبل ثلاثة أشهر من وفاته عنوانها (الغروب الأخير) عن مجموعة عائد خصباك. لقد اقتبس عبد الجبار عباس في ختام مقالته عن رواية جبرا قولاً من جوزيف كونراد يصف به تجربة رحلة (السفينة) بأنها: ((من تلك الرحلات التي تبدو كأنها خُلقت لتشبح الحياة.. تلك الرحلات التي تكاد تكون رمزاً للوجود)). ونضيف إلى هذا الاقتباس قولنا: كانت رحلة عبد الجبار عباس القصيرة ومضة مبكرة شهقت في فضاء الخطابات النقدية بحبكات منغّمة. إلا أنها ربما كانت: ((نغمة نحيلة لكن واضحة مؤلمة الوضوح أمام البحر الهادئ)). باقتباس من أدوار الخراط. أو لعل الاقتباس الأفضل عن رحلة عبد الجبار عباس النقدية لم يحن قوله بعد، كي يستمر الكلام في غيابه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram