محمود عبد الوهابمرّتْ النظرية الأدبية ، عبر تاريخها ، بثلاث مراحل : مرحلة الاهتمام بالمؤلف ، مبدعاً للنصوص ومُنشئاً لها ، ما جعله مركز الدراسة ، وفي مثل هذه الحال، تتطلب القراءة معرفة حياة الكاتب والمؤثرات التي أسهمت في صنع نصوصه ، وكأن النصّ تابعٌ أمينٌ لشخص كاتبه ،
لا تُفكّ مغاليق نصوصه إلاّ بأن يمسك الدارس بالبيئة التي أحاطت بصاحبها ، ومرحلة تالية أكّدت فاعلية النص في مجال القـــراءة ، بمعزلٍ عن كاتبه ، وهي مرحـــــلة عُرفت بـ " النصيّة " ، وكانت مقولة " موت المؤلف " أداة إجرائية في قراءة النصّ وإنتاج دلالته ، بعيداً عن نيات مؤلفه وحياته ، وبعيداً عن المؤثرات المكانية والزمانية والثقافية والنفسية التي كانت وراء إبداعه ، وفي العقدين السابع والثامن من القرن الماضي ، هيمنت نظرية التلقي على المناهج النقدية ، وهي المرحلة الثالثة من تحولات القراءة ، وذلك باتخاذها القارئ فاعلاً أساسياً في عملية إنتاج المقروء وندّاً لمؤلفه ، وأصبحت هذه النظرية نموذجاً جديداً في حقل القراءة ، بعد تقويم المناهج النقدية السائدة أو إقصائها ، وبعد تأكيد المفهوم الجديد للنصّ الذي لا يتخلّق إلاّ بفعل القراءة ، كما أصبح هذا النص ، بالمفهوم الجديد أيضاً، لا ينتمي إلى ذاته ، بل إلى عملية التفاعل والمشاركة التي تقوم بينه وبين قارئه ، من خلال اشتغال القارئ به ، وهكذا جرّد منظرو التلقي النصّ من حقيقته واستقراره بعد تكريس الاهتمام بالقارئ الذي أصبح مركَزاً أساسياً في إنتاج الدلالة ، ومن هنا فلم تعد القراءة ، بهذا المفهوم الجديد ، تفسيراً للنص أو شرحاً له ، بقدر ما تنطوي عليه من فعل الإبداع ، وهكذا حظي القارئ في المنهجيات الحديثة بموقع استثنائي ، استبعَدت فيه تلك المنهجيات القارئ العادي ، وتوجّت مكانه " قارئاً فائقاً " أو "نموذجياً" أو "مثالياً " ، وهو إقرار صريح للمفهوم الجديد ، بامتلاك القارئ تمرّساً وقدرة على إنتاج دلالات النصّ ما جعل القارئ مؤلفاً ثانياً، وتأكيداً فإن أيَّ تلقٍ إبداعي لا يتمّ إلاّ بتفاعل متلقيه بالنص ، غير أن هذا التفاعل لا يتحقق إلاّ عبر إشارات ومحدّدات وقرائن مبثوثة في نسيج النصّ ، تعمل هذه الإشارات على إثارة المتلقي باستدعاء خبرته ومستودعه ، لأن أية إضافة لدلالة من دون قرائن يعدّ تلقياً إسقاطياً ، فالقراءة لا تمتلك طابعاً انفتاحياً مطلقاً ، والقارئ يخضع لمجموعة من الشروط التي تكمن في النصّ الذي يضمُ عدداً من الشفرات والمحددات التي يصنع بها مرجعيته و استراتيجيته الخاصة التي تسهم في سيرورة التلقي ، وترسم حدوده بالتحكّم في القراءة على شكل تعاضد بين القارئ والمؤلف ، وعلى وفق مقاصد ، هي قصديّة الكاتب ، وقصديّة النص ، وقصديّة القاريء . إن فعل الكتابة إرسالاً ، على فعل القراءة تلقياً وتعاضداً ، يفضي إلى إنتاج خطاب تراسلي بين المؤلف والقارئ ، تكون فيه القراءة ، الفعلَ المنتج للخطاب الإبداعي الذي تتضاعف فيه دلالة المقروء بما يمتلك النص من إشارات تندمج ببنياته ، لتحيل القارئ إلى مستودعه ومخزون خبرته ، ما يمنح النصّ تجاوزاً لذاته ، كما يمنح القارئ تأويلاً مشروطاً بالقرائن والإشارات المبثوثة داخله ، فليس النصّ ، بحسب إيكو: " مرتعاً للإسقاطات الذاتية ، بل على العكس ، فإنه تلاقح مركّب بين ذات القارئ وموضوع النصّ .. غير أن مقولةَ الانفتاح هذه مشروطة ، من حيث أن القارئ لا يستطيع فتح النصّ على مصراعيه ، لأنه لا يستطيع بتاتاً تنحية المعالم العامة التي رسمها النصّ ، ولا يستطيع تجاوز مجال تداول قراءته الممثَّل في النسق الثقافي النسبي الذي يساعده على تفعيل النصّ ". إن مشروع إيكو التعاضدي، ومقولته في " حدود التأويل "، تجعل من القارئ أحد الفاعلين في القراءة ، لا الفاعل الوحيد.
هل القارئ هو مؤلف ثانٍ حقّاً؟
نشر في: 22 ديسمبر, 2009: 04:57 م