شاكر الأنباريينبغي الا يمل الواحد من الحديث عن بغداد. عن أطوارها وخرائبها، نجاحاتها ومباهجها. نحن لا نملك عاصمة تلمّنا سواها. هي ام المدن في تاريخنا، وهي سرة حضارة عبرت القرون. لكن ما عاشته بغداد في العقود الأخيرة فاق كل الكوارث التي مرت عليها، منذ ان بناها المنصور وحتى هذه اللحظة.
ولعل الحروب المتوالية، والحصار، ثم بعد ذلك انهيار الدولة، والاحتلال، والارهاب، كل ذلك خلف في خارطة بغداد الاجتماعية، والثقافية، والجمالية، ندوبا لا تندمل بسهولة. الارهاب، بكل تصنيفاته، نال من روحها الكثير، وكاد ان يحيق بها حاضرة، وجامعة للهوية العراقية، ومركزا تاريخيا لا يمحى من الذاكرة. ورغم ما قام به من تفجيرات عشوائية، وتدمير للبنية التحتية، وتشويه للنسيج الاجتماعي، لم يستطع النيل منها. ومن يتجول في محلات بغداد يقع على مشاهد متشابهة. لعل ابشع تلك المشاهد هي الصبات الكونكريتية التي تعزل منطقة عن منطقة، وأحيانا شارعا عن شارع. هذا ما يلاحظه المراقب في المشتل، الأعظمية، الدورة، السيدية، العامرية، وغيرها من الأماكن. وكأن قدر القاطنين ان يظلوا في حمأة الخوف من الفضاء المفتوح. كأن على بغداد ان تدوم مقطعة الأوصال، مع أن الارهاب، والميليشيات، والعصابات، بدأت تتلاشى من الايقاع اليومي للحياة. سيطرة الأجهزة الأمنية اصبحت واقعا، بعد أن تم تنقيتها من العناصر الدخيلة، اللاوطنية ذات الانتماءات الكسيحة حزبيا وطائفيا ومناطقيا. الشوارع الخلفية، والساحات الداخلية بين المحلات والمناطق تتشابه كذلك. أكوام النفايات، الكلاب السائبة، الحفر، تكسرات الأرصفة، وآثار الرصاص على واجهات البيوت والمحال. ثمة قوة تريد لهذا المشهد أن يظل دائما في ذاكرة البغداديين، أو ضيوفهم. المؤسف ان الفرد العادي، ابن المنطقة، يتحمل جزءا من المسؤولية تلك. المبادرة الى تنظيف الشارع، والساحة المجاورة، والبيت المهدم في الزاوية، كادت ان تتلاشى من قاموسه. هو أغلب الظن، ما زال يعيش مرحلة الحصار الخانق، أو الأوقات الاستثنائية أيام حرب الميليشيات. الفرد لم يعد فاعلاً في محيطه، وهذا ما ينبغي التوعية به. وأيضاً يتطلب ثورة في الذهنية، وفي التربية اليومية، وفي البحث عن بدائل ترمم النقص في عمل الحكومة والمؤسسات. والمشترك بين المحلات تلك، ومناطق مثل ساحة الرصافي، والميدان، وأزقة الفضل، والشواكة، ومداخل الشورجة، ان ليس هناك أية خطة ملموسة للخلاص من حقبة الارهاب، والاحتلال، والحصار، والمعارك الطائفية، والفساد العميق. الخلاص عبر تجديد شباب تلك الأماكن التي تعتبر تاريخية، ولها ايقاعات مميزة في الذاكرة البغدادية. الجميع يدرك ان الخروج من الزمن الأسود ذاك لا يتم الا باحياء بغداد من جديد. عاصمة حضارية منفتحة على الأدب، والفن، والحكمة، والفلسفة، وحقوق الانسان، وحرية القلب والروح، والعلم والليل، مثلها مثل دمشق والقاهرة وبيروت. أي مثل العواصم التي لا تنام، وأصبحت ايقونة جميلة في خارطة هذا الشرق السابح بين اليقظة وشهوة الخيال.
عامها جديد.. ولكن
نشر في: 22 ديسمبر, 2009: 05:51 م