فريدة النقاش الحرية هي الضمانة الوحيدة لتطور المجتمعات وصنع التقدم، والصدام، أي الصدام هنا مع السلطة الدينية التي تزعم امتلاك الحقيقة حدث في كل الأديان إذ توجد سلطات دينية ترى أن للحقيقة وجها واحدا، وهذا على خلاف التراث العربي الحي الذي نجده في كتابات المعتزلة والأشاعرة والصوفية.
هذه الكلمات للمفكر وأستاذ علوم القرآن الدكتور (نصر حامد أبو زيد) الذي منعته السلطات الكويتية مؤخرا من الدخول إلى البلاد للمشاركة في ندوتين ثقافيتين قبل أيام قليلة إحداهما عن الإصلاح الديني في الدولة الدستورية) التي نظمها مركز الحوار للثقافة (تنوير) ولا يدري أحد ما سوف يكون حال التنوير إذا كانت الندوة قد بدأت بمنع مفكر من الدخول إلى البلاد أي من الكلام). وبعد منعه من الدخول شارك (نصر) في الندوة عن طريق التليفون حيث وصلت بعض أفكاره إلى المشاركين معتبرا أن قرار منعه هو قرار سياسي قائلا إن الارتباط الوثيق بين الدين والسياسة في المجتمعات العربية جعل المسؤولين يخافون علي كراسيهم المزورة، إذا السلطة في المجتمعات العربية لا تعترف بالأفكار المخالفة لها، وتعتبر من يروضها كافرا كما أشار إلى أن الذين يقولون لا اجتهاد مع النص يريدون ابقاء الخطاب الديني جامدا حيث تسيطر الرؤى الفقهية التي تتعامل مع الانسان من منطلق الحلال والحرام، والمكروه والمباح حتى أصبح المكروه حراما، والمباع بدأ يتلاشى رويدا رويدا..) خلاصة الأمر أن محاصرة الفكر الحر هي العلامة المميزة لوضع الحريات في البلدان العربية عامة كما يقول لنا الواقع والتقارير. ونصر حامد أبو زيد واحد من المفكرين العرب النقديين البارزين، الذين حاولت السلطات الرجعية ومن يسمون أنفسهم برجال الدين الحيلولة بين أفكارهم وبين الجمهور الواسع هذا الجمهور الذي تشتد حاجته لتجديد معرفته وتمكينه من مساءلة العالم الذي يعيش فيه ليشارك في انتاج الاسئلة الضرورية للتغيير إلي الأفضل، ولا يبقى دائما أسير الأجوبة التقليدية والوهمية التي تلقنها له السلطات المستبدة وهي تحاصر روح التساؤل أي النقد الذي لا يحلل الأجوبة وحدها، بل الاسئلة أيضا النقد الذي يتحلى بالشجاعة حين يدخل به إلى قلب المسكوت عنه ويتوغل في المناطق المغلقة على الوعي العام، ليصل إلى جذور المسائل، ويحيط بكل العوامل التي تصنع ظاهرة ما، ويخلخل أسس النظام القائم على الاستغلال والقمع المادي والمعنوي الذي يبرره المجتمع الطبقي ويفرض عليه الحماية عن طريق القانون والدين والأخلاق والاقتصاد. وبدون روح النقد وأدواته تظل هذه المجالات مغلقة على الجماهير العريضة وتبقى موضوعات للتأمل النخبوي تنظر لها الجماهير الغارقة في الأوهام التي يروجها النظام الطبقي عن نفسه باعتبارها تعبيرا عن الوضع الطبيعي ونظام الأشياء ولطالما حذرنا الشاعر والمسرحي الاشتراكي الكبير من أن نقول عن أي شيء إنه أمر طبيعي حتى لا يستعصي هذا الأمر علي التغيير وطالبنا بتفكيك مقولة نظام الأشياء لأن هناك نظما متباينة للأشياء وتحددها المصالح وتروج لها. والنقد هو مدخل هذه الجماهير العريضة لتملك أدوات التغيير والتشبع بروحه الملهمة التي تساعد الإنسان العادي على رؤية الحياة الاجتماعية ككل واحد واكتشاف مفاصل الارتباط بين كل مكوناتها، والأهم من كل هذا هو التعرف التدريجي على الأساس الذي يصنع اغتراب الإنسان في هذا العالم وسعيه المضني لاسترداد ذاته وجوهره الإنساني من قبضة المال كمعبود لتنطلق روحه حرة في فضاء الكون وتنتقل من حالة الضرورة التي تساوي بين الإنسان وكائنات الدنيا الأخرى الأدني منه والتي لا وعي لديها بذاتها مثلما هو الإنسان الذي كرمه الله. سوف تظل المجتمعات العربية مكبلة بالتخلف إذا لم تضع القوى الديمقراطية على رأس أجندتها قضية تصفية الحساب مع الوعي التقليدي ومع تراث الماضي القديم الذي أثبت التاريخ والواقع عقمه وعجزه عن التواؤم مع احتياجات العصر، والشرط الرئيس لذلك كله هو القدرة على انتزاع الحقوق والحريات العامة من قبضة الاستبداد والفساد خاصة حين يتستران معا بالدين ويقدمان تأويلا رجعيا له معاديا لإنسانية الإنسان خاصة النساء. نحن مدعوون لأن نخترق هذا الحصار الفولاذي المضروب حول النقد في كل من السياسة والتعليم والإعلام والعلاقات الاجتماعية كافة والا سنظل نراوح مكاننا حتى نخرج من التاريخ إن لم نكن قد خرجنا فعلا.
محاصرة النقد
نشر في: 22 ديسمبر, 2009: 05:55 م