إبراهيم الحريري انحدرت مع العتمة إلى الجرف الصخري. ربطتُ قدمي إلى حجر ثقيل. قذفت نفسي وسط اللجة. قلت: سأظل أصارعه حتى يصرعني فأتوحد به، هو البحر الجميل، هو الموت الجميل. كنت اخبط الموج المارد بذراعين هما كل ما بقي لدى من أراد الحياة.
وحين تعبت، وسحبني الحجر الثقيل إلى الأعماق، ارتفعتُ بقوة موجة ماردة قذفتني عند عتبة بوابة هائلة. كان ثمة: العتمة وحدها. الصمت وحده. البوابة المغلقة وحدها. وأنا وحدي. كنت أرتجف بللا وبردا وخوفا ووحدة وحمى. تسلل إليّ عبر البوابة هدير الأرغن، موجاً هادئاً مسترسلا وموجا معربدا صخابا، موجة إثر موجة.. موجة إثر موجة، حتى احتواني فبكيت. ضربت الباب بقبضتين واهنتين. كنت اصرخ: "افتح! افتح يا ابن الله! لا تتركني وحدي مرميا في العتمة والوحدة والبرد." تك صوت معدني خلفي. التفتُّ. كان شرطي يزيح ترباس بندقيته مثنياً ركبته يصوب بهدوء. الرأس أم القلب؟ سيتناثر مخي! ستنبثق نافورة دم من صدري! تجمدت. ظهري إلى البوابة. دفعت الباب. غرست قدمي في الأرض. دفعت بكتفي. دفعت وانا أعول صارخا "افتح يا ابن الله! سيقتلونني يا ابن الله! افتح! افتح!" صّرَّ الباب العتيق، فجأة، وانفتح. انقذفت وسط قاعة فسيحة تئز لصق أذني الرصاصة. كنت وحيدا تحت قبة مرتفعة، يتحدر من جنباتها هدير الأرغن. تلفتُّ. كان هناك. المصلوب. على جبينه الشوك. وفي يديه وقدميه المضرجتين المسامير. اندفعت إلى المذبح. سقطت على ركبتي. خبطته بقبضتي وأنا اصرخ: انزل! انزل! امنحن ِ صليبك يا ابن الرب انزل! فعذابي فاق الصلب انزل! امنحن صليبك! انحدرت على خديه دمعتان. -: انزل!" هتفت مستعطفاً "أو لم تتعب؟" -: بلى" تداخل صوته بتموجات الأرغن" لكني في كل مرة كنت أهم بالنزول، كانوا يسمرونني عليه من جديد" -: وهل خفت وهم يقتادونك إليه؟" -: كنت ارتجف ذعرا وهلعا." -: هل تألمت؟ هل بكيت؟ هل ساورك الشك؟" -: نعم. صرخت به: ابتي! ابتي! لِمَ تركتني؟ لم يجب. تركني وحدي أرقى الجلجلة والصليب" -: تعبتُ يا ابن الله "قلت له وأنا أنشج "خذني جنبك. انا مخذول ووحيد." مثلي" رد ابن الله "ومع ذلك فأنني أواصل". -: أكلما تشبثت بصخرة تفتت بين أصابعي مثل كومة ملح؟ أكلما تعلقت عيناي بنجمة خبت وانطفأت مثل ضوء خلّب؟ الزيف والكذب والفظاظة في كل شيء، في كل مكان، لا شيء حقيقي.. ليس ثمة فرح.. باطل وقبض ريح! باطل وقبض ريح! وتقترح علي، رغم ذلك، أن أواصل! أي عدل في هذا؟" وأنا أهز قبضتي في وجهه. -: اسمع!" صرخ ابن الله "اختارني، من بين جميع أبنائه، اب جاهل غشوم، لأكفر عن خطاياه وخطاياهم، لأفتديه وافتديهم." انتفض على الصليب. ارتجت الخشبة. نفر الدم من باطن كفيه وقدميه وخاصرتيه كأنه صلب لتوه. "عشرون قرنا وأنا أواصل الحياة- أواصل الموت، مسمرا على هذه الخشبة، كلما حاولت منها فكاكا، ازددت نزفا وتمزقا والتصاقا. قل لي" جّأر غاضبا "قل لي: أي عدل في هذا؟" شقت صدره تنهدة كادت تنهد لها القبة وتتداعى الجدران. استطرد وقد استعاد هدوءه: يا لشقاء روحك! تطلعت مثلي إلى السماء في كل شيء، داخلك وخارجك، فلا أنت بلغتها، ولا استعدت الأرض. وستظل، مثلي، مصلوبا بينهما، بين الأرض والسماء، حتى تغرس قدميك في الأرض ثانية. اما أنا" توقف وقد شاع في صوته وقسماته الاستسلام "اما أنا، فلم يتبق لي إلا هذا" ملتفتا إلى الخشبة. -: انا خاطئ وملعون! انا خاطئ وملعون يا ابن الله!" كنت ارج المذبح وانا ارتجف. -: هل كذبت؟" سأل ابن الله بعد ان طال صمته. -: نعم يا سيدي. نعم" وأنا أنشج. -: هل سرقت؟" -: نعم يا سيدي. نعم." -: هل تشهيت امرأة جارك؟" -: نعم يا سيدي. نعم." -: هل زنيت؟" -: نعم يا سيدي. نعم" بلوعة. -: هل قتلت؟" لم أجب كرر وكأنه يصرخ "هل قتلت؟" تذكرت القصر العتيق. قصر الموت. الأب –المحارب القديم- مكوما، مثخنا، مضرجا. أبناؤه المتحلقون حوله مدهوشين مذعورين. كيف حدث هذا؟ من كان يتصور؟ بعضهم، قلة، ماتوا دونه. بعضهم خذله. أنكره قبل صياح الديك. بعضهم خانه. باعه بأقل من ثلاثين من الفضة. بعضهم شارك في تقطيعه والتهامه. ساتريكون**. لكن: من قتل من؟ -: اجل" تساءل ابن الله "من قتل من؟" تذكرت الضيف. لكن هل قتلته حقاً؟ هل كان موجوداً؟ -: موجود وغير موجود، قتلته ولم تقتله." أجاب ابن الله "يهجع حينا، ويستيقظ حينا. تظلان تصطرعان. تغالبه ويغالبك، حتى تتحدا في النهاية، فتتلاشيا معا." -: لكن هذا كثير على انسان واحد... كثير عليّ يا ابن الله" قلت في.. رنة تجمع بين الأسى والاحتجاج. -: اعرف "رد ابن الله "لكن أليس هذا" مشيرا برأسه المكلل بالشوك إلى جسده المصلوب "أليس هذا كثيراً عليّ؟" لم انبس فتواصل بيننا الصمت. -: قم!" صرخ ابن الله أخيراً. حاولت. لم استطع -: قم!" كرر بصوت آمر و
ابــــن الإنـــســــان
نشر في: 28 ديسمبر, 2009: 05:14 م