عبد الواحد لؤلؤةكان السياب شاعرا موهبته أكثر من ثقافتـه، وتجربته في الحياة تكاد لتتخطى في حجمها موهبته وثقـافته معـا. في حدود هذا الإطار يمكن للباحث المنصف أن يتملى صورة السياب بعد مرور ربـع قرن على رحيله عن دنيا أحبها ولم تحبه، تماما كما كان موقفـه من إحدى عشرة فتاة، أحبهن في حياته وكان صادقا في حبـه لهن لكنه بقي حتى قبل أن يرحـل بعام وبعض العـام يصيح كـل من أحببت قبلـك لم يحبوني ".
وهذا الخطـاب يمكن أن يكون مـوجها إلى "لوك نـوران " الكاتبة البلجيكية التي كانت تعوده في باريس وقـد أخذ منـه الطيش مـأخذه، إذ لم يعرف الطبيب دواء داء يرد الموت، ويمكن أن يكون كذلك موجها إلى الدنيا نفسها. فالدنيا، مثل الحبيبات، مـا أحبته ولا عطفت عليـه، في حين كـانت تحب وتغدق العطف عـلى من لا ظـل لـه يقارب ظل السياب (الذي "يلف المجلة ومن فيها،) ممن يسيطرون على مورد رزق شاعر ما كان يطمع بـأكثر من عيشـة الكفاف. لكن إعادة النظر في موقع السياب على خارطـة الشعر العـربي المعاصر يجب أن تتسم بموضوعيـة ترفض "أن تجعـل من الشفقة التي أثـارها موت السياب أو النقمة التي بعثتها تقلباتـه في الحياة رائـدها للحكم عـلى شعره " . في رسالة دكتوراه عن السياب قـدمت في السوربـون أواخر عـام 1980 يورد الباحث 3 ما يزيد على أربعمائة كتاب وبحث عن الشاعر بـاللغات العربية والإنكليـزية والفـرنسية والصربيـة، إلى جانب 37 عنوانا من أعمال السياب شعرا ونثرا وترجمة، إضافة إلى 55 كتـابا ومرجعا ممـا يتعلق بدراسـة شعر السيـاب من قريب أو بعيـد. ولا أحسب هذا العدد إلا قد تضاعف منذ تاريخ مناقشة الأطروحـة تلك حتى هذه الأيام. فكيف للمرء أن يستوضح صورة السياب الشعريـة اليوم، بعدما جرى كل الذي جرى في الشعر العربي المعاصر، وبعد أن راح كثير من شعراء اليـوم يعيدون كتـابة أشعـار السياب إذ ما نزال نسمع "أصـداءه في قصائـد شعراء ولدوا بعد موته أو قبيل موته " 4 . لكن عددا قليلا من هذه الأبحاث والكتب أساسية في تقويم شعر السيـاب وشخصيتـه، وأحسب أن كثيـرا سـواهـا يعيـد ويقتبس ويناقش، ويكرر أقوال سابقيـه دون الاعتراف بفضـل السابقـين، إلا من رحم ربي. ولا بأس من بعض الصراحة المؤذية في الإشارة إلى أن بعض دراسـات "المستعربـين" أو "المستشرقـين" لا فـرق، لا تتسم بالدقة التي يفترضها المصابـون بعقدة الخـواجا. فهذا البروفسور (أندريه ميكيل) الأستاذ في (الكوليج ده فرانس) يترجم إلى الفرنسية قصائد من السيـاب ويذكـر في مقدمتـه أن السياب ولد عام 1927 فيخصم من عمره القصير سنه ليجعله يعيش "سبعا وثلاثين سنة من الصراع والأسى" . والأطرف من ذلك أنـه يتـرجم قصيـدة "إقبـال والليل" ويضع هامشا أكـاديميا يقول أن "إقبال" إشـارة إلى "محمد إقبـال الفيلسوف والشـاعر الهندي المسلم (1873- 938 1) الذي جمع بين تراث التصوف والآراء الغربية الحـديثة..."فحتى إذا لم يكن الباحث على علم بهذه الحقيقة الجوهريـة في حياة الشـاعر زوج (إقبال) فإن سياق القصيدة يشير إلى ذلك في وضوح شديـد لا ينتظر أن يغيب عن أي قارئ، فضلا عن أستـاذ جامعي مستعـرب. كيف يغيب عن أي قارىء شعر معنى : ...يـا أم غيلان الحبيبـة"...لولاك ما رمت الحياة...إقبال مدي لي يديكمات حبـك في ضحاه".. وطوى الزمان بساط عرسكوالخطاب جميعه بصيغة المفـرد المؤنث. فلا حول ولا.. لا أريد الاستـرسال بمـا لا يرقـى إلى ذلك من أمثلة لـدى مستعربين آخرين، أو "مستغربـين" ناطقين بالعربيـة، وجـدوا في "اشتراكية" بدر المزعومة موضوعا صحفيا "يدبج" منه ثلاث مقـالات في (الأهرام) لا تحفل بدقة التـواريخ ولا بـالأحكام النقدية الجـارفة عندما تكون القصائد "غير اشتراكية" لأنها عند ذلـك لغدو قصـائد "تافهة.. رديئـة... فاتـرة... غريبـة" . وهذه الأحكـام صدرت عـلى قصائد "جميلة بوحيرد" و" الأسلحة والأطفال" و"بور سعيد" و"المومس العمياء". والزبد يذهب جفاء دائما. أما ما ينفع الناس فلا يزيد عن بضعة كتب وأبحـاث جادة تنـير بعض مـا خفي من إشـارات الشاعر إلى مسائل ثقافية قد لا تقع في حدود معرفـة القارئ، وما ينبغي له، أو تشير إلى بعض الأمور في سـيرة الشاعر تضيف إلى الشعر غنى. من هذه الكتب دراسة الأستاذ الدكتور إحسان عباس بعنوان "بدر شاكـر السياب: دراسة في حياته وشعره (1969). أحسب أن هذه الدراسة تتميز بالرصانة والدقة، وبالإنصاف قبل كـل شيء. فهي تتناول حيـاة الشاعر اعتمادا على معلومات استقاها البـاحث من أصحاب الشـاعر ومعاصريه ومن مجموعة من رسـائله غير قليلة. إن هذه المعلومات ضرورية لدراسة الشعر دراسـة موضوعية، وبخاصة لدى متابعـة الينابيع الثقافية التي يستقي منها الشاعر وأحسب أن كثيرا من الدراسات اللاحقة عن السياب قد استندت إلى هذا الكتاب المهم، ولا أحسب أغلب مـا تبعه إلا من بـاب التنويعـات عـلى اللحن الـرئيس. صحيح أن معلومات إضافية قد ظهرت بعد حين، ولكني لا أجد تلك المعلومات قد أضافت كثيرا إلى صورة السياب في حياته وشعره فـوق ما نتعلمه من كتاب الدكتور إحسان عباس. وثمـة كتاب الدك
السياب .. مصادر قصيدته
نشر في: 30 ديسمبر, 2009: 04:15 م