فخري كريم
قد يكون الملمح الأكثر إثارة للانتباه في الحياة السياسية الوطنية خلال العام الذي نودع هو التغير الواضح في طبيعة التحالفات واصطفاف القوى التي تنتظرها انتخابات يتوقع لها أن تكون ساخنة في مجرياتها ونتائجها على حد سواء.
فبرغم ما انطوى عليه العام من أحداث كبيرة في الجوانب الأمنية والسياسية والاقتصادية، إلا أن تغير التحالفات والاصطفافات يكتسب أهمية جذرية في أسلوب التعاطي مع مستقبل وتطورات الحياة السياسية العراقية. هذا التغير هو حركة، لكن لا أحد يستطيع حتى الآن أن يقرر ما إذا كانت هذه الحركة إلى أمام أو إلى وراء أو هي محض مراوحة في المكان القلق. إن النتائج التي ستؤول إليها هذه الحركة هي وحدها التي ستقرر مدى إيجابية التغيير أو سلبيته. ومع أن هذه الحركة هي تعبير حقيقي عن إرادة تغيير..فهي لا تعني انها ستفضي بالضرورة إلى محصلة ايجابية. فالحاجة إلى التغيير تتباين دوافعها كما يتباين أسلوب التعبير عنها والإفادة منها بتباين قناعات واجتهادات ومصالح القوى الناهضة بالتغيير وتلك العاجزة عنه أيضاً. تحت ضغط المشكلات الناجمة عن التحاصص السياسي الذي استخدم الهويات الوطنية الفرعية ستارا له، وتحت ضغط أقوى من الجماهير التي ساندت الدولة الجديدة ومشروعها الديمقراطي وأخفقت في نيل الكثير من متطلباتها الأمنية والخدمية..تحت هذين الضغطين تشكلت إرادة التغيير لدى القوى السياسية عشية انتخابات المحافظات، وليس واضحا حتى الآن أن تلك القوى تتفهم حاجة التغيير بنفس الدرجة التي تدرك فيها أو لا تدرك آليات تصريفه والتعبير عنه ببرامج انتخابية من جهة وبتحالفات من جهة أخرى.فليس المهم رفع لافتات التغيير قدر ما يكون مهما تأكيد الصدقية بالاستجابة لمتطلباته وضرورة وجود آليات للتعبير عن التغيير بطرق واقعية وملحوظة. إن انتخابات مجالس المحافظات، وهي من بين أهم أحداث العام المنصرم، كانت تعبر بشكل جوهري عن هذا القلق والضبابية اللذين نتحدث عنهما في تفهم حاجة التغيير وفي عدم إدراك آليات تصريفه لدى بعض القوى السياسية. ففي تلك الانتخابات كثُر الحديث عن التغيير وعن الرغبة في تجاوز المحاصصات التي استترت بالهويات المذهبية والعرقية، وكثر النقد الموجه لتركيبة القوى السياسية، وبلغ الأمر أوجه باستعارة قوى سياسية هويات لا صلة لها بالبناء الفكري العقائدي والتاريخ السياسي والديني لها وتقدمت بها كشعار انتخابي يعد برغبة في التغيير، لكن الوعود شيء وقوة التاريخ والايديولوجيا شيء آخر. لا يكفي للتغيير أن يكون مجرد رغبة. إنه إرادة مدعمة بقناعات حقيقية، واستعداد ذاتي للتجاوز وتمثل قيم التغيير ومفرداته وأطره والقوى الاجتماعية التي تشكل قاعدة التغيير، وصاحبة المصلحة في تحقيقه. لقد بات واضحا بعد مضي هذه الأشهر على الانتخابات المحلية، أن شعارات التغيير والاستعارات الإيديولوجية التي رافقت تلك الشعارات في الانتخابات المذكورة، كانت نتاج تفهم ذكي، انتخابياً، لحاجات الناخب من جانب، وسوء استخدام، سياسياً، وسوء توظيف لتلك الحاجات من جانب ثانٍ. لقد تصادم السلوك الانتخابي هنا بالصدقية السياسية. فالعجزعن برمجة الأهداف والشعارات السياسية المستخدمة في حملة انتخابية والفشل في التعبير من قريب أو بعيد عما يترجم تلك الأهداف والشعارات أمر يضرّ بالصدقية السياسية ويطيح بها عند التطبيق. لقد بقيت مجالس المحافظات تعبر بوضوح عن أزمة التحاصص من جهة، وعن صعود ممثلي قوى سياسية ودينية وقومية وعشائرية، يفتقرون في معظمهم إلى أبسط مؤهلات من يقومون على إدارة شؤون حكومات محلية، بكل ما تتمتع به تلك الحكومات من صلاحيات وما تتحمله من مسؤوليات. ليس المقصود من مثال مجالس المحافظات وانتخاباتها محاولة للتثبيط واليأس.ليس المقصود إثارة الشبهات حول شعارات التغيير وادعاء تغيير الاصطفافات الذي يجري الحديث عنه بكثافة..إنما المهم، وهو نصف الكأس الثاني، هو البرامج التي يجب أن يتقدم بها دعاة التغيير إلى الناخبين، برامج لا تكتفي بالشعار والوعد العام العريض وانما تفصله على شكل خارطة مشاريع وأرقام ومراحل، ويقرنها بضمانات الايفاء بها والالتزام بمضامينها. لقد تغيرت التحالفات والاصطفافات في انتخابات مجالس المحافظات بشكل لا يبتعد كثيرا عما أُعلن من تحالفات واصطفافات جديدة، مع اختلاف غير جوهري هنا أو هناك ، لكن الجوهر احتفظ بأس المشكلات السابقة: بقاء التحاصص وآفته التقاسمية المكبِّلة. وسيكون من الصعب أن نجزم لقرائنا أن التحالفات الجديدة، في سوادها الأعظم، قد فكرت بالمستقبل ما بعد الانتخابات أكثر من تفكيرها باجتياز ممر الانتخابات نفسه.ويستطيع أي مواطن أن يتأمل ويفكر بمبررات تنافر قوى بهويات عقائدية متماثلة عن بعضها وتجاذب أخرى تحمل هويات إيديولوجية متصادمة أو متعارضة. وغالبا ما تكون للسلطة شهواتها التي تتراجع معها قوة نفوذ الإيديولوجيا والعقيدة. كل شيء في خدمة الوصول إلى السلطة أو البقاء فيها، وليست الإيديولوجيات والعقائد بالبعيدة عن هذه الخدمة.