ابراهيم الغالبيتبدو الرواية ماضية في فرض نفسها جنسا أدبيا متفردا له الهيمنة على حساب باقي الفنون و الآداب، و ما نشرته مؤخرا صحيفة التايمز البريطانية من قائمة بأفضل مائة كتاب خلال العقد الأخير لا يأتي تضمنها على عدد كبير من الروايات إلا شيئا طبيعيا و هو امتداد لاختيارات سابقة تعكس الواقع و الاهتمام المتزايد من قبل الكتّاب من جهة و القرّاء
من جهة أخرى بهذا الفن الأدبي الذي يمثل فن العصر بلا منازع. و لكن ثمة سؤال منطقي: لماذا الرواية دون غيرها؟ ما الذي تملكه هذه التي غدت معشوقة الكتّاب و القرّاء لتنفرد بسطوتها و بذخها الآسر تاركة خلفها بمراتب فنون الأدب الأخرى؟؟ قد يبدو الجواب صعبا، فتفسير شيوع جنس أدبي في زمن معين دون غيره كان على الدوام عصيا على الفهم، فعلى سبيل المثال يجد البعض نوعا من الحيرة في تفسير انهماك العرب الأوائل في نظم الشعر رغم عيشهم في بيئة صحراوية قاسية وحياة ملؤها الشدة والبطش يبدو معها الشعر نقيضا كونه وجه العذوبة والرقة والمشاعر الوادعة؟! و أصبح ديوانا لهم وشيئا مميزا فيهم حتى قال الجاحظ إن فضيلة الشعر مقصورة على العرب أو من تكلم بلسانهم. لا شك في أن التفضيل يرتبط بعوامل معينة و متغيرات صارخة جعلت هذا اللون من الأدب يتقدم على ذاك و يتراجع ذاك عن غيره، و لكن تحديد هذه العوامل بشكل دقيق و فهم حدود كل منها في التأثير باصطفاء الجنس الأدبي أو لون ما لا يبدو بالمهمة السهلة. اليوم تبزغ الرواية في عصرها الذي يصفه البعض بالذهبي، و بالمناسبة فقبل أربعة وستين عاما، أي في 1945، تنبأ نجيب محفوظ بسيادة الرواية و تراجع الاهتمام بالشعر، حيث قال: لقد ساد الشعر في عصور الفطرة والأساطير‏‏ أما هذا العصر‏ عصر العلم والصناعة والحقائق‏‏ فيحتاج حتما لفن جديد‏‏ يوفق على قدر الطاقة بين شغف الإنسان الحديث بالحقائق وحنانه القديم إلى الخيال‏ ‏وقد وجد العصر بغيته في القصة‏‏ فإذا تأخر الشعر عنها في مجال الانتشار‏‏ فليس لأنه ارقي من حيث الزمن‏‏ ولكن لأنه تنقصه بعض العناصر التي تجعله موائما للعصر‏‏ فالقصة على هذا الرأي هي شعر الدنيا الحديثة‏. و لننطلق في تصور أسباب انتشار الرواية مما قاله نجيب محفوظ وهو القول الذي يكرره الجميع تقريبا الآن بصياغات مختلفة، فالرواية تعتبر الشكل الأدبي الأنسب لتطورات و متغيرات حفل بها العصر الحديث و الرواية أكثر اتساعا ورحابة للتعبير عن حركة الحياة و جوانبها وصورها المعقدة إذ أن كاتب الرواية يجد متسعا وافرا من التعبير الحر وغير المكبل بالكثير من القيود. و منها أن الرواية أقدر من غيرها على عرض الأفكار بطريقة مؤثرة في المتلقين و لا سيما الأفكار المشاكسة، المتمردة، غير المألوفة، ما أدى إلى جذب الأنظار إليها بقوة و اهتمام الجمهور بها دون سائر الآداب. الإثارة عامل مهم في رواج الفن الروائي وهو يأخذ مستويين الأول نلمسه في المجتمعات المنفتحة التي تجد فيها الأشياء المثيرة دائما جمهورا عريضا و الإثارة هنا إحدى وسائل الإشباع النفسي و انتشاء الرغبة و المعرفة معا، و هي تتواصل في نسق حياتي بحيث أصبح كل شيء قابل للتسويق شرط إثارته.. أما المستوى الآخر فيبرز في المجتمعات المحافظة تلك التي تنطبق عليها مقولة " كل ممنوع مرغوب " و لهذا فليس غريبا أن نجد أنه خلال عام 2009 يصدر في دولة دينية محافظة كالمملكة العربية السعودية خمسون عملا روائيا الكثير منها أخذ بجانب الإثارة خاصة في القضية الجنسية لطرح أفكاره أو التعبير عن حالات انفعالية و وجدانية معينة. وربما أمكن الزعم أن الرواية أضحت بديلا جماهيريا عن الكثير مما يُكتب في علوم متنوعة فالمرء المتطلع للمعرفة والثقافة بوسعه أن يلح على قراءة الرواية ليروي شيئا من رغبته و يطفئ ظمأه في عصر لم يعد بالميسور وسط زحمة الأعمال و المشاغل الحياتية التفرغ لقراءة كتب ذات لغة علمية بحتة تستدعي قبل قراءتها الإلمام بالمفاهيم و المعاني التي تملأ متونها، أي قراءة كتب سابقة. أما الرواية فلا تشترط مسبوقية كهذه إلا بحدود، فضلا عن أن عنصر التشويق و الإثارة سيكون محفزا على تجاوز بعض العقبات هنا. و استطرادا فإن الرواية راحت تتماشى مع المتغيرات العصرية فلم تعد الروايات المطولة مستساغة لتواكب إيقاع الحياة وسرعته بروايات قصيرة و بعضها لا يتجاوز القصة القصيرة إلا ببعض الأوراق. وقد رأى البعض أن نقاد الأدب أنفسهم ساهموا في شيوع الرواية بعدما أولوها اهتماما خاصا وكانوا وراء انتشارها ولكن لا يبدو ذلك تاما فما الذي دفع النقاد للاهتمام الخاص بالجنس الروائي يا ترى؟ إنهم بالأحرى واقعون تحت العوامل نفسها التي ذكرنا جزءا منها وربما يصح القول السابق بدرجة ما في عالمنا العربي عن طريق تأثر النقاد بالأدب الأوروبي ولا يمكن أن يكون سببا عاما بحال من الأحوال. كذلك فالحديث عن سيطرة الرواية، عربيا هنا، لا بد معه من الحديث عن تراجع الشعر فبعد محاولات التجريب و الاستنبات للنماذج الغربية وحلول النثر بوصفه شعرا كثُر الطارئون عليه الذين أفسدوا كل شيء تقريبا، الأمر مختلف مع الرواية و لعله واحد من أسباب الميل المت
لماذا الرواية؟
نشر في: 1 يناير, 2010: 04:54 م