TOP

جريدة المدى > ملحق منارات > جبرا والشعر الحر

جبرا والشعر الحر

نشر في: 1 يناير, 2010: 05:15 م

د.عبد الواحد لؤلؤةمن افضل امثلة الشعر الحر مانجده في اعمال جبرا ابراهيم جبرا (1920- 1994) هذا الفلسطيني  - العراقي الذي علمنا الكثير عن الاداب والفنون العالمية.اذكر انني سمعت عبارة ( الشعر الحر) لاول مرة منه في حدود عام 1950 وكنت ممن اسعده الحظ بالتلمذة عليه..
في العام 1959 نشر جبرا في بغداد اول مجموعة له من الشعر الحر بعنوان تموز في المدينة . وفي عام 1964 نشر في بيروت مجموعة المدار المغلق  وفي عام 1979 نشر في بغداد مجموعة لوعة الشمس في طبعة محدودة فاخرة ورسوم فذة بريشة اركان دبدوب، ثم اصدر الاعمال الشعرية الكاملة عام 1990 ببيروت . وبعد وفاته صدرت له  عام 1996 ببيروت مجموعة متواليات شعرية ، في هذه المجموعات تتضح لك صورة الانسان المثقف المطلع على كثير من الاداب العربية والاجنبية ، لذلك لا تجد هزالا في كتاباته ، وقد تلمس غموضا سببه في الغالب الاشارة الى شاعر او اديب لا تقع في حدود ثقافة القارئ . ولان جبرا قد درس الادب الانكليزي في كمبردج وهارفرد ، واطلع على كثير من اعمال الشعراء الامريكان والاوروبيين  تجد شعره الحر غير مالوف، فهو لم يكتب قصيدة واحدة ذات وزن وقافية،  لان قصيدة تفعيليه ولاقصيدة تراثية بشطرين ، فتحس ان مايكتب اشبه بالسعر المترجم . في شعر جبرا تجد صفات الشعر الحر التي حددها (باوند) و ( اليوت ) و( وتمن ) من قبلهما .هنا اسطر يتراوح طولها حسب الصورة او الفكرة .وقد تجد ان بنية الجملة لا تتبع قواعد النحو العربي ، وقد تجد اشتقاقا غير مالوف ، او كلمة عامية او عبارة دارجة .كل هذا تقرره الصورة او الفكرة ، او احساس الشاعر بالتوتر الذي يتطلبه الحال .هذه قصيدة من مجموعة متواليات شعرية ، التي تحمل عنوانا فرعيا يقول : بعضها للطيف وبعضها للجسد والطيف هو طيف لميعة التي وقع في حبها منذ ان جاءنا الى بغداد بعد النكبة الاولى بفلسطين وكانت تدرس معه في دار المعلمين العالية  فتزوج منها وعاشا  بنعمة الحب اكثر من اربعين سنة  ثم اختطفها الموت منه عام 1992 ولم يعش بعدها اكثر من سنتين في قصيدة (اللغز) ص91 نقرأ: سأبقى فريسة ذلك اللغز الذيألقاه علي ابو هولمصنوع من قهوة وعتمة ،وانا خارج من مدينة "طيبة"وهدد حياتي بالوباء إن أنا لم اعرف الجواب:"وجه مرمري شاحب ن حزنهيزيد غموضه سحراً وحيرة،مسكون بهم داخل همّ- وجه امرأة كأنها للتوّ انبثقت من قلب ظلام سحيق في دثار أصفر باهر، كضياءِمقتطع من شمس ضحى أطلت خطأ من بين الغيوم، فجاءها رسول من قتام الدخان وجرها من يدها صاغرة، دونما التفاتة واحدة الى الوراء،واختفى بروعتها الذهبية في حلكة ظلام آخر، ينتظر.اجنبي ، وانت الذي احببتها: من أي ظلام خرجتْ وفي أي ظلام أُقحمت؟"ثم سؤال ابي الهول ، الذي يتكرر مع الزمن ، لكن السؤال الان ليس عن "الانسان" بل عن " الموت" وهو موضوع القصيدة: رأيتها ساعتئذ ، واخذت وما زلت مأخوذا بما رأيت ولا اعرف الجواب، وابو الهول ما زال يسألني، وأنا على عتبات "طيبة" ، ويهددني كل مرة بالوباء. بعد وفاة "لميعة" غدا الموت موضوعاً رئيساً في تفكير جبرا، الى جانب الحب، وهذه القصيدة تستند الى اسطورة (أويد يبوس) المعروفة في الاساطير الاغريقية، أو كما صورها (سوفو كليس) (القرن الرابع ق.م) في مسرحية أوديب ملكاً، عندما اقبل (اوديب) على ابواب "طيبة" الاغريقية ، المضروبة بالوباء ، كان عليه ان يفسر اللغز الذي القاه عليه ابو الهول ، الذي كان يحرس بوابة المدينة: من هو المخلوق الذي يمشي على اربع في الفجر، وعلى اثنتين عند الظهيرة، وعلى ثلاث في المساء؟ والجواب هو الانسان، الذي يحبو على اربع في فجر حياته، وعلى قدمين عند اكتمال بنيته، وعلى قدمين وعكاز في أواخر عمره. ومعرفة (اوديب) بالجواب رفع الوباء عن مدينة طيبة. وابو الهول في قصيدة جبرا "مصنوع من قهوة وعتمة" كلاهما معتم عتمة ايامه ولياليه بعد غياب (لميعة) عن هذا العاشق الابدي ، لياليه اكواب قهوة متلاحقة ، وعالمه عالم "طيبة" ولنلاحظ ايحاء "الطيبين" دون "الاموات" لكنها صورة عالم مضروب بالوباء.كان الشاعر في هذا الحلم/ الكابوس "خارجاً) من "طيبة" بعد ان كان قد دخلها كما دخل الشاعر/ المغني الاسطوري (أورفيوس) الى العالم السفلي، عالم الاموات في الاساطير الاغريقية، بحثا عن زوجته المعشوقة الحورية، (يوريديكه) .استطاع الشاعر /المغني ان يستميل (برسيفونه) حارسة عالم الموتى ، ليعود مع الحبيبة الى عالم الحياة، شريطة ان يسير امامها ولا يلتفت الى الوراء لكي ينظر إليها، والا اعيدت (يوريديكه) الى عالم الموتى. لكن (أورفيوس)لم يطق صبراً، فأختلس نظرة الى الوراء ليلمح الحبيبة ، فاختطفها عالم الموت من جديد، وبقي (أورفيوس) ينتظر، ويغني ، وليس من امل بعودة الحبيبة. سؤال "ابو هول العتمة" هذا يشبه سؤال ابي الهول الاسطوري الذي يلقي باللغز ليكون الجواب الصحيح سبباً لرفع الوباء عن "طيبة" عالم الاحياء – الاموات

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

برتولت بريخت والمسرح العراقي

برتولت بريخت والمسرح العراقي

د. عادل حبه في الاسابيع الاخيرة وحتى 21 من أيار الجاري ولاول مرة منذ عام 1947 ، تعرض على مسرح السينما في واشنطن مسرحية "المتحدثون الصامتون"، وهي احدى مسرحيات الشاعر والكاتب المسرحي الالماني برتولت...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram