مع ان اجيال القراء في تبدل مستمر وان جبرا ابراهيم جبرا يمارس الكتابة الابداعية والادبية ما يزيد على خمسة عقود من الزمن، الا ان الانتشار الذي تحقق له عبر السنوات في اطار التواصل والاستمرار يطرح في حقيقة الامر سؤال القراءة:
ضمن أي نسق ثقافي، وبأية حساسية يقرأ: بل وكيف يحقق جبرا ابراهيم جبرا ما اسميناه بالتواصل والاستمرار تميز ادبي وفني؟ لقطيعة مفترضة حققها ضمن جيل من المبدعين العرب على صعيد الابداع الروائي؟ لاعتبارات تتعلق بالحداثة وتمس دعواتها التجديدية...؟ في الامر اشكالية قديمة مطروحة، وقد بلورها (أمبرتوإيكو) بصدد الرواية من خلال معادلة: المقبولية = القيمة السلبية، مستخلصه منها ما صرح به قائلا: "انني اعتقد انه من الممكن ان نعثـر على عناصر القطيعة والاحتجاج في الاعمال التي تبدو ظاهريا من اعمال الاستهلاك السهل، وان نلاحظ بالمقابل بان بعض الاعمال التي تبدو مستفزة وتعمل على هز الجمهور لا تحتج نهائيا على أي شيء". فاين يقف جبرا ابراهيم جبرا من ذلك؟ ما معادلة انتشاره؟ ليس من المفيد استباق الاجوبة التي يعرضها جبرا على القارىء في هذا الحوار، ولكننا نتصور مبدئيا ان الحضور المؤثر الذي حققه جبرا على صعيد الرواية، وربما بنفس الدرجة في غيرها من الاجناس والميادين التي ابدع وانتج فيها، له ارتباط مباشر بثلاثة جوانب اساسية برزته بصورة لها، في تقديرنا، اهمية خاصة في دراسة منحى وتطور الرواية العربية: جانب يتعلق ببناء الشخصية الروائية واستخلاص السردي لافعالها ووظائفها والعالم المحيط بها، بل ووجودها الطبيعي في معمار النص الروائي كلا. ذلك ان الرواية العربية درجت منذ زمن البداية الى زمن التاسيس على استلهام النموذج "الشعبوي" وتركيز صورته " الواقعية" او المتخيلة في مختلف المواقف المجسدة له نصيا ضمن خريطة مفترضة للصراع والتطور. ويمكن الافتراض مبدئيا ان جبرا، في اطار حساسية جديدية بلورها جيله من كتاب الرواية العربية ايضا، حول هذا النموذج، على مستوى التخييل، الى "مثقف"، ورسم له صورة ذهنية في مختلف رواياته. وهو تحويل لساني لانه تم على مستوى اللغة الساردة ايضا كما انه تحويل في الوظائف والافعال المرتبطة بوجوده النصي في العمل الروائي.. فرضية مبدئية يمكن ان تصلح منطلقا لدراسة خاصة. جانب متعلق بالفرضية كمجال للتنظيم الدرامي للاحداث. ولعل خصيصة جبرا على هذا المستوى انه وسع من فضاء الرواية طردا مع توسيعه لبناء الاحداث والشخوص. فليس الفضاء في رواياته (قاهرا) كما عند نجيب محفوظ مثلا، ولا (اقليميا) كما في الكثير من تجارب الرواية العربية، بل انبسط مداره – في نطاق الوجود الحضري والعمراني وما يؤثثه من علامات ودلات – لكي يشمل الوجود المدني العربي بامتياز. يمكن اعتبار هذا التوسيع من متطلبات "العالم الذهني" الذي يؤسس عليه جبرا رواياته. جانب يتعلق بالشكل "كتعبير لفظي عن علاقة ذاتية وفاعلة مع المضمون" كما يقول باختين، ويمكن الاكتفاء، في هذا الجانب، بذكر ما اصاب ابنيته الحكائية في رواياته المختلف من تعدد وتنوع، وذلك في مقابل البناء السردي الهرمي المؤسس الذي بلوره نجيب محفوظ، على سبيل المثال، في بعض رواياته الاولى. ويعود هذا كله لارتباط الشكل عند جبرا اصلا بالتجريد الذي مس تعامله مع مفهومي الشخصية والفضاء في الرواية... الخ. اشارات عامة لا تغني، بطبيعة الحال، عن الدراسة المعمقة "للبنيان المرمري" الذي شيده جبرا ابراهيم جبرا طوال عقود خمسة او يزيد روائيا وشاعرا وناقدا ادبيا وفنيا ودارسا وصاحب دعوات شرعت للتجديد والحداثة. وفي الحوار التالي بعض المؤشرات التي امكن لنا ان نبلورها معه تلقائيا: آفاق: نود ان ننهي هذا الجانب الانطباعي من الحديث بسؤال اخير عن الكتابات التي ألفت حول اعمالك الروائية، وبالخصوص منها تلك التي ألفت بالمغرب في سياق الاطروحات الجامعية. جبرا: قرأت رسائل جامعية كثيرة كتبها دارسون في اقطار عربية وغير عربية مختلفة، والحق ان ما قرأته للدارسين في جامعات المغرب هو اعمقها واشدها وعيا واكثرها براعة، واكثر كشفا لامور لم تخطر ببالي. واذ أقرأ هذه الرسائل، اندهش لما كشفه الباحث من نواح لم تكن في بالي غير انها مضمرة في النص ومتضمنة فيه. وهذا يؤكد على قيمة العملية النقدية التي انخرطوا فيها وجندوا تظرياتهم من اجلها. واضيف، انني احيانا لا افهمهم، ومن حقي الا افهم ما يقولونه. أفاق: لكن، الا يزعجك قليلا باعتبارك مبدعا وقارئا متذوقا للابداع، حجم الاصطلاحات التي تدرس من خلالها اعمالهم وبالخصوص من لدن النقاد الذين يتبنون المناهج الجديدة؟ جبرا: صحيح، هذا الامر كان يقلقني فيما مضى، في بداية الامر، وخصوصا اذا لم اكن راضيا على هذا النوع من المصطلح. لكنني في الفترة الاخيرة لا اتسامح فقط، وانما اخذت ارى الناحية الايجابية في الامر. فالنقد شيء يتجدد باستمرار، وتجدده يعني تجدد مصطلحه، وفي تجدد مصطلحه اضافة الى الرؤية القديمة وانفتاح لها على الجديد من المعارف والطرائق. وصرت هكذا اشعر ان من حق هؤلاء
هكذا تكلم جبرا ابراهيم جبرا
نشر في: 1 يناير, 2010: 05:18 م