شاكر لعيبيوفق العديد من الكتابات والحوارات، تلتمع في الذاكرة الشخصية لشريحةٍ عريضة من الشعراء العرب فكرة غائمة عن مصادر النص الشعري ، حتى أن شيئا يُشابه الإلهام، مجهول المصدر، ما زال الإمكانية الأساسية التي يُفسَّر بها انبثاق النص الشعريّ.
وإذا ما تركنا جانباً الفكرة الأخرى المُوازِيَة التي يمكن اختزالها بالعبارة الشهيرة "أنا نسيج وحدي"، فمن الواضح أن هناك التباساً أو عدم اعترافٍ بالمرجعيات النصية وبالتجارب الشعرية الأكثر عراقة ورسوخاً، بل بنفيٍ التأثيرات الواصلة من هنا وهناك على مستوى المفردة واللغة والجملة الشعرية برمتها من جهة، وعلى صعيد التركيب ثم المناخ العام للنص من جهة أخرى. إذا ما قمنا بتفحّص شهادات روّاد وكبار الرسّامين والنحّاتين العرب بشأن تجاربهم، من أجل مُقارَبتها بشهادات الشعراء في عالمنا، لتحققنا من تحاشيهم، غالباً، الإشارة إلى أسماء أساتذتهم ومرجعياتهم التشكيلية والتيّارات الجمالية السائدة في المدن الأوربية التي دَرَسَوا فيها، ونقلوا عنها ما سيُقال إنه محض نسيج تشكيليّ شخصيّ. إضافاتهم ودأبهم لا يُنكران لكن مرجعياتهم مُتنكّر لها. النقد التشكيليّ، إذا ما وُجد القليل منه، هو الذي ساهم بكشف بعض هذه المرجعيات التي ما زال الكثير منها مجهولاً. لقد تلقفت الأجيال اللاحقة هذه الصمت عن المرجعيات الشعرية والتشكيلية من هناك، ومن هناك أيضاً وصلت مشاكل أخرى أشدّ ضراوة، منها القول بوقوع إضافات جمالية مقطوعة الصلة عن كل سياق معرفيّ ومرجعيّ. هل للأمر علاقة بنسقٍ اجتماعيّ تاريخيّ يأنف سوى أن يكون فرْداً عَلَمَاً لا يُتابع شيخاً ولا طريقة إلا رايته وذاته، أو أن يكون هو نفسه، منذ البدء، طريقةً وشيخاً يُحتذى؟. هل للأمر علاقة بتضُّخم أصليٍّ للذات الشعرية المشهود له طوال التاريخ الشعري العربي؟. تضخّم ضارب الجذور صار قاعدة لجمهرةٍ من الشعراء المُحايثين، بسبب بداهةٍ تستحق إعادة الفحص، كأن هناك غيابَ قناعةٍ عميقة بالتاريخ نفسه وتناسياً بأنه ليس تاريخاً للأفراد الذوات فقط، ثم تنكّراً لتاريخ الشعر الذي هو مثل أي صيرورة ثقافية يُساهم الجميع بها حسب القدرات والحسّاسيات وعمق الرؤية لحركة العالم، إذا لم نقلْ درجة الحكمة في تلك الرؤية؟. سيتفق الجميع لفظياً على نبذ تضُّخم الذات لكن الغالبية ستظل تنهل منه رغم ذلك، فتلك البداهة المُهْمَلة راسخة، ولو أنك نسيتها فستحكم، أنت نفسك، على نفسك عربياً بقلة الشأن. يُعتبر التواضع في ثقافة العرب المعاصرين صِنواً لاحتقار الذات. من هنا تصدر تلك النبرات العالية وتغيب المراجع النصيّة وتُطمَس. ليس من الإفراط، لكن من الحُرْقة، أن نصِفَ اليوم بعض المتبخترين في الوسط الشعري، بطواويس الأدب. اليوم أكثر من أي وقت مضى لأن التعالي والأنفة والعداء سمات ظلت حاضرة طيلة تاريخ الشعر العربي بين الشعراء. لعلَّ (الرسالة الموضحة، دار صادر 1965) للحاتميّ (ت 388هـ)، في "ذكر سرقات المتنبي وساقط شعره"، المكتوبة في النيل من المتنبي خير مثال على النسق الثقافي الذي ينطوي جلّ شعراء العربية في حقله المغناطيسي، حتى اليوم. وهي مثال من بين آلاف الأمثلة التراثية التي لا نجد لها مثيلاً، على حدّ معرفتنا القليلة، في ثقافات الشعوب الأخرى حيث يحوز الشعراء موضعاً أبعد في التواضع والحكمة والمعرفة. إن درس الرسالة الحاتميّة متعدّد المستويات، ويعلن بعض المتناقضات المُعتمِلة من حينها في ثقافتنا الشعرية: فلقد (تعلَّم) المتنبي من الفلسفة اليونانية وغيرها من معارف عصره النظرية واللغوية والصوفية مما جعله هدفاً للشعراء المُدعّوين في مجلس الحاتميّ الذي لم يقبل أن يقترب الشاعر من تلك الحقول على تلك الشاكلة، من بين اعتراضات كثيرة أخرى حتى وصف بعض شعره بالسقوط. بينما علَّمنا المتنبي المثقف، بصوتٍ عالٍ، تضخم الذات أكثر من أي شاعر آخر، حتى صار رمزاً للمُبالَغة في تمجيدها، وتمجيدنا اللاحق لها. وهنا مفارَقة جديدة. إفراط لم يتوقف للحظةٍ، وتناقضٌ لم يقع حله، إذا كان الحلّ ضرورياً. وإذا كان للحاتمي فضيلة (الاعتراف) اللاحق بأهمية شعر المتنبي، حيث كتب رسالة أخرى اعتذارية يشير فيها: "وكنتُ قد بلغتُ شفاء نفسي منه، وعلمتُ أن الزيادة على الحدّ الذي انتهيت إليه ضربٌ من البغي لا أراه في مذهبي، ورأيتُ له حق القدمة في صناعته، فطأطأتُ له كتفي، واستأنفتُ جميلاً من وصفه.."، فلا أحدَ من شعرائنا ونقادنا أو القلة منهم قادر على (اعترافاتٍ مماثلة). مِمَّ يتعلم الشعراء إذنْ إذا لم يكن من أسلافهم وذوي الخبرة والإشراق من معاصريهم، ومن تجاربهم الشخصيّة كذلك؟. لقد تمادينا في غيّنا طويلاً، وما زلنا. لنعترف نحن أيضاً، بأننا تعلّمنا من عنترة العبسيّ والمتنبي الجموحَ الزائد عن الحد، وأننا نركن بصيرة المعري على رفوف اللاوعي، وأننا نحتفل بأبي نوّاس على أنه الوجه الوحيد للذةٍ أبيقوريةٍ فحسب، وإننا لم نقرأ بشكل كاف رصانة الشريف الرضيّ واستعارة بشار بن برد، وأن أصحاب "الواحدة" مناسبات تُستحضر قليلاً لأننا نكتب أعمالا شعرية كاملة يتجاوز عدد صفحاتها، دون مبالغةٍ، صفحات أي ديوان شع
تلويحة المدى: مِمَّ يتعلم الـــشــعـــراء؟
نشر في: 1 يناير, 2010: 06:06 م