جمال جصانيعام 1922 بدأت الاستعدادات لإجراء أول انتخابات تشريعية في البلد الذي تحرر توا من وطأة أربعة قرون من الاحتلال العثماني. وكم كان الأمر مدهشاً ومحيراً لقوات الانتداب البريطاني ومشاوريه المتخصصين بشؤون الشرق والعالم القديم، عندما أفاقوا على جدية وحزم الموقف الشعبي الرافض لإجراء الانتخابات من دون أحزاب.
آنذاك تمكن رواد النشاط السياسي الوطني والمستقل من حشد قطاعات واسعة من سكان هذا الوطن القديم حول أفضل وأكثر الشعارات السياسية حكمة ورقياً (لا انتخابات بلا أحزاب). ورغم حداثة التجربة السياسية وخاصة في مجال الصحافة والإعلام، إلا أن صحف ذلك الزمان ابت الا ان تواكب بواكير هذا الوعي المتقدم، فجاءت عناوينها الرئيسية وافتتاحيتها مترعة بهذا الحدث والهم المحوري على سبيل المثال لا الحصر (الانتخابات هنا.. أين الاحزاب) كان هذا عنوان احدى الافتتاحيات وقالت اخرى (أن الشعب سوف لا يشارك في الانتخابات، إذا لم تكن هناك احزاب سياسية حرة). لم تلبث تلك الشعارات ان تحولت الى واقع، لم تتخلف عن سبر غوره السلطة الجديدة، حيث سارعت لتأسيس حزبها وحظيت بدعم المغرمين بعطاياها ومزاياها. وفي الجانب الآخر برزت العديد من الشخصيات الوطنية التي توجهت بخطابها الى القطاعات الشعبية الواسعة ونالت برامجها الدعم والاستحسان. آنذاك تشكلت الاحزاب والمنظمات السياسية ولاحقاً المهنية، كيانات حملت معها الارهاصات الأولى لتطلعات لجمت طويلاً. غير أن الاحداث اللاحقة لم تلبث أن أشارت الى طوباوية غير القليل من تلك الأحلام وسقف توقعاتها المرتفع، والمتنافر وامكانيات سكان هذا الوطن الفعلية. تطورات تراجيدية هتكت ستر مخزوناتنا وموروثاتنا الاحتياطية وكثبانها المتراكمة منذ أكثر من ألف عام، من السبات والتدهور المعرفي والقيمي. فبعد النجاحات الخاطفة التي تحققت لمقتنيات العالم الجديد (البرلمان، الاحزاب، الصحافة و..) بدأت مخلوقات البرك الآسنة تتململ من صخب وضجيج المحتفين بالسلع الوافدة. وكما هو الأمر في التراث الجليل، أبت الا ان تستدرجهم الى لعبتها المحببة الى... والوليمة الأخيرة، والتي اندلق من رحمها الحزب الواحد والذي عادة ما ينقل الامانة التاريخية الى ... السيد الواحد. وكما انتهى الجيل الاول من الاحزاب بعد سقوط النظام الملكي، لقيت الاحزاب والحركات الجديدة حتفها على يد اخطر المافيات السياسية التي تسللت بهدوء ووحشية لا مثيل لها الى مصادر الثروة والقرار والاسرار، بعد ان التهمت ماكنة (القائد الضرورة) آخر العناقيد التي اينعت من تلك الاحزاب والشعارات. وفي نهاية المطاف دحرجت شراهته المتورمة رقبته تحت بساطيل القوات العابرة للمضارب، والتي اودعت رأس صنمه الى وليمة شحاطات أطفال بغداد. في مشهد تعجز فيه قريحة غابريل غارسيا ماركيز السحرية من الشطح الى ضفافه. وبعد أن رحل مشرد العوجة غير مأسوف عليه، تبخرت جمهورية الحيطان، لتشرع ابواب (البستان ـ الغنيمة) لإعادة تقسيم جديدة عرفت بـ (المحاصصة) وسبحان (المنطقة الخضراء) التي جمعتهم من دون ميعاد..! حشد من جنرالات (الاحزاب الخائبة) هرول سريعاً الى وليمة (الوطن)، وغير القليل منهم ضحى بمنفاه المخملي فداء لرنين الوطن ومقاعده الشاغرة. بعد اكثر من ربع قرن من تشرد تلك الوجبة الاخيرة من بقايا (الاحزاب) عادت فلولها الى ارض التجارب التاريخية، تعلل النفس بعودة الروح لمومياءاتها المترهلة بالهزائم والاوهام. وسط صخب وعجاج الحقبة الجديدة، لم ينتبه المهرولون الجدد الى معطيات حرائقها ورمادها وبالذات منها تلك الحقيقة المريرة: لم يعد هناك حزب سياسي واحد وفق معايير قانون الاحزاب والجمعيات والذي شرع في الربع الاول من القرن المنصرم..! ولكن هل ادرك (شيوخ المحاصصة) هذا الامر بحذاقتهم وحكمتهم المعهودة، عندما رحلوا مشروع قانون الاحزاب الى دورة اخرى وأجيال جديدة قادمة، ستقع على عاتقها مسؤولية إعادة وتأسيس الاحزاب، عندها سيلتحق بها قانونها من دون الحاجة لكل هذا الصخب والضجيج؟ هذا السؤال متروك الى فرسان ما يعرف اليوم بفزاعة (القضاء المستقل) وجرذان صاحبة الجلالة وسدنة العلوم السياسية في (جامعات) هذا الوطن المنكوب ومن يتبعهم في دروب اليباب والعشاء الاخير من الكباب.
لا ديمقراطية بلا أحزاب
نشر في: 1 يناير, 2010: 06:08 م