احمد كاظم حبي*ثانياً :في التجربة والممارسة :لابد بداية من التذكير بأن هذا الفكر نشأ بين المثقفين في الجامعات ولم يكن وليد تراث سياسي محدد ومتجسد في حزب وان كان يبدو اليوم مرتبطاً عضوياً بالحزب الديمقراطي المسيحي الالماني، والواقع ان الحزب الديمقراطي المسيحي الالماني عندما تأسس غداة هزيمة المانيا في الحرب العالمية الثانية مستوعباً كوادر حزب الوسط (الكاثوليكي) الذي انحل عام 1933م،
انطلق على اساس برنامج سياسي واجتماعي أقرب الى اليسار(مؤتمر شباط 1974م)،متأثراً بتيار(الاشتراكيين المسيحيين).كان الشعب الالماني يعيش في ظل تقنين صارم واقتصاد مركزي موروثين من الحرب،رافقهما عوز شديد وســوق سوداء نشطـــة. وكــــان لودفيك ايرهرد استــــاذا جامعيــاً من رواد مدرسة " الاردوليبرالية"، استعان به حاكم بافاريا العسكري بصفته مستشارا اقتصاديا. وشاءت الظروف والصدف ان كلفت الجيوش الحليفة ايرهرد بادارة الاوضاع الاقتصادية والمالية في منطقتي الاحتلال الامريكي والبريطاني لشغور المركز،فبادر في حزيران 1948، من دون تنسيق مسبق مع قياداتها، الى عملية انقلابية كان قد حضّر لها نظريا منذ زمن، فاعلن في قرار يقف عند حافة اللاشرعية، الغاء النقد الالماني المتداول، في يوم واحد، وتقديم سلفات محدودة من وحدات نقدية جديدة لكل مواطن، وتحرير جميع السلع من قيود الاسعار. نجح الانقلاب وزالت السوق السوداء للتو، وعاد الالمان بسرعة الى العمل وارتفع الانتاج بنسبة 50% خلال بضعة اشهر. وقد اتى تبني الحزب الديمقراطي المسيحي لتوجه " اقتصاد السوق الاجتماعي" الليبرالي في مؤتمره الثاني في تموز 1949، تكريساً لنجاح الانقلاب الذي قاده لودفيك ايرهرد واستيعاباً له، قفزا الى اليوم، فان الساحة التي تبرز فيها تاثيرات فكر "اقتصاد السوق الاجتماعي" بشكلها الاوضح ليست الساحة الالمانية بل الساحة الاوروبية حيث ينص مشروع الدستور الاوروبي (الذي تعطل اقراره) ومعاهدة لشبونه ( التي يفترض ان تحل محله) على "ان الاتحاد الاوروبي يعمل من اجل اقتصاد سوق اجتماعي مع السهر على تنافس حي ".اما اذا عدنا الى تاريخ تطبيق هذا الفكر وتاثيره على السياسات الاقتصادية في المانيا ذاتها، فيمكن التعرف الى فصلين كبيرين:مرحلة اولى ايام كان لودفيك ايرهرد وزيراً للمالية ثم مستشاراً بين 1948و1966،وهي تمثل العصر الكلاسيكي والتاسيسي لتطبيق مبادئ اقتصاد السوق الاجتماعي، وكانت مرحلة اعادة الاعمار والنهوض الاقتصادي، ثم، بين 1966 واليوم، تعاقب لثلاث مراحل اجمعت على اعتماد موقف ايجابي من مقولات "اقتصاد السوق الاجتماعي"،لكنها خلعت عباءتها على مضامين اقتصادية مختلفة: تحت قيادة الاشتراكي ويلي براندت (1966 الى 1982)، تم مزج اطروحات "اقتصاد السوق الاجتماعي" مع الاطروحات اليسارية، لاسيما بعدما تخلى الحزب الاشتراكي في مؤتمر باد غودسبرغ، عام 1959، عن مرجعيته الماركسية ليتحول الى التوجه الاصلاحي، متاثراً بالنجاح السياسي لتطبيق نظرية " اقتصاد السوق الاجتماعي" خلال الحقبة السابقة، فتوسع دور دولة الرعاية وتعزز موقع النقابات وارتفع العبء الضريبي، وكان عنوان المرحلة داخلياً قطف ثمار مرحلة اعادة الاعمار،وخارجياً ارساء التهدئة مع الكتلة الشرقية مثلما تعامل معه حزب البعث بعد عام 1968 لغاية الاصلاحات المزمعة في 1978و1979وما تلاه 1984-1985. عاد الديمقراطيون المسيحيون الى السلطة مع هلموت كول (1982الى 1998)، تحت عنوان اعادة تصويب السياسات الاقتصادية وتقويمها وفق النظرية الاصلية، لكن انهيار جدار برلين وضرورات توحيد المانيا فرضت توسعاً هائلاً في الانفاق، ولم تجر ادارة عملية التوحيد وفق النهج المتقشف الذي اعتمد في مرحلة اعادة الاعمار، ولم يكن نجاحها باهراً كذلك، ولا تمكنت الحكومة فعلياً من لجم المكاسب الاجتماعية التي تحققت في المرحلة السابقة وهذا يشابه ما تعامل معه نظام بعد التغيير في 2003 مع ما رافقه من انهيار لبعض ما كان يسمى مكاسب اجتماعية. عاد الاشتراكيون الى السلطة مع غيرهرد شرودر (1998الى 2006)، فتولوا هم، الى حد بعيد، تنفيذ المهمة التي فشل اليمين في تطبيقها. وشهدت المرحلة تحديداً اقرار النظام النقدي الاوروبي الموحد ومن ضمنه معاهدة الاستقرار المالي التي تستوحي بحذافيرها مبادئ "اقتصاد السوق الاجتماعي".وفي المحصلة، لا يمكن اعتبار كل ما حصل في المانيا، منذ الحرب العالمية حتى اليوم، نتاجا لنظرية "اقتصاد السوق الاجتماعي"،لان في المانيا الكثير من الاحزاب والاطراف السياسية المختلفة، وحتى ضمن الحزب الديمقراطي المسيحي تيارات متعددة لم تلتزم جعيعها بالنظرية، وقد تطورت الافكار مع الزمن، لا بل ان الكثير من العناصر التي تعتبر مكونة للنموذج الالماني، ليست فقط غير مندرجة ضمن سياق فكر السوق الاجتماعي، بل هي مناهظة له، تحديداً التوسع في " اقتصاد الرخاء" ومسالة المشاركة في الادارة واعتماد المفاوضات القطاعية.rnاللافت في هذا المسار النظري- العملي المركب امران:1.اذا اراد المراقب متابعة المسار خلال نصف قرن من زاوية نظرية " اقتصاد السوق الاجتماعي" يستوقفه التباس المواقع والمواق
اقتصاد السوق الاجتماعي - الجزء الثاني
نشر في: 4 يناير, 2010: 03:58 م