محمد خضير 1 فات الكثير مما ينبغي عليّ إتباعه، لجرد مدّخراتي السنوية، وإني لأشعر بقدر من الأسف على فراغ جرابي من لقط الطريق، وبقدرٍ مماثل من حسد الأدباء الذين تركوا بين أوراقهم مفكرات تتضمن قوائم حساب المطاعم والفنادق التي ارتادوها وأسعار الثياب والحاجات التي اشتروها،
وغير ذلك من سقط الحياة اليومية. فجأة يجد المرء أن فواتاته لا تُحصى في قائمة، وبخاصة تلك التي تشوقه وتسجل رقيّ معارفه، فضلاً عما يدّخره لكتابة أحد أعماله الأدبية. وعلى درجة من الأهمية، فقائمة الفواتات تتضمن جرداً بالقراءات الروائية، وتدوين خلاصة لحوادثها وشخصياتها وأماكنها ومفردات حوارها الغريبة، وغيرها من أطعمة وأشربة وأثاث، وما حول ذلك. كم يبلغ أسفي على ما فاتني من عبارات نادرة، وأخرى شائعة من مثل ((على حين غرة)) أو ((في طرفة عين)) أو ((ضربة لازب))، استعارات مثل ((بائعة لذة)) أو ((فرس رهان)) أو ((ناطح صخرة))، استعمالات نحوية، لغات ولهجات ومصطلحات، أهملتُ تدوينها حين قراءتها أو سماعها أول مرة. خلَتْ مفكراتي من هذه الفواتات، ولو أني بوبتها في دفاتر خاصة لحصدتُ منها الكثير، ولكانت متعة جمعها هائلة، كما أظن. وإذ يزداد أسفي يوماً بعد يوم على نفسي، أشعر أن الوقت لم يفت تماماً لنصح من فطن إلى إملاء هذه المحاصيل على نفسه يومياً، أن يسير بعمله حتى نهايته. أما من فاتهم الأوان من الغافلين أمثالي للبدء بذلك، فلهم العزاء بما يرزمون من فتات أيامهم في رزمة واحدة في نهاية كل عام، يؤرخونها ويرسلونها بعد فوات أوانها، عسى أن ينفع ما فات ومضى باستدراك طعم الأوقات الفائتة وسريانه في مستقبل نصوصهم. تتحرك الأشياء الضعيفة، الآثار الذابلة والميتة، الأفكار الراكدة والمخذولة، بدفع غامض إلى الأركان والزوايا، إلى هامش صغير بجانب مساحة احتلتها الأشياء الكبيرة والأفكار النشطة، الصور والذكريات المؤطرة، تتحرك وتتكوم في الركن المتبقي من نهاية كل عام. هذه الأفكار المتبقية من حصاد السنين هي فواتات الحقل الذي جاءت علية رياح الخريف، زفرات التقويم المندفع إلى نهايته، روائح العمر الذي سيأتي عليه المطر. لا حيلة لي في أن ألتقط بعض هذه (الفواتات) من مساحاتها الصغيرة في بطون مفكرات الأعوام الماضية وأطرافها، وأقدمها في رزم مضمومة تحت نور المسرح الذي تتفاعل عليه أدوار هذه الأيام المتصارعة، تخلصاً من ضغطها وإلحاحها المشبع بالأسى والتشنج. 2 أبدأ بعرض ميلي الطبيعي والعقلي لاحتواء الأشياء في نظري وحروف نصوصي، وتطويع غريزتي البهيمية لغريزة التأليف الخيالية، أي غريزة الكتاب الأساسية. فالكتّاب مفطورون على تأليف الكتب، عملهم الأساسي صناعة الكتب. تولد غريزة الكِتاب في أحشائهم مع ولادتهم، وتنمو مع نشوئهم الغريزي، يمتثلون لدافعيتها التي تنبجس مثل قوة لا تفسير لها من الأعماق، يبجلّونها ويرفعونها إلى أسمى الرتب، لا يردّون لها نداء ولا يكبحون سطوتها على النفس الجامعة غرائز الجسد. بل أن غريزة الكتاب تسطو على النفوس التي تخلو منها فتدخلها وتسيطر عليها، فتفرض عليها قوتها الغريزية. غريزة أولية تتلذذ إذ تحطم، تخترق، تعذّب، تستولي، تحرِّر ما عداها من غرائز الحياة. غريزة الكتاب فطرة أولى، جامعة لملذات الطبيعة، تستعبد ذاتها إن لم تحرِّر غيرها. الكتاب الذي يستجيب لغريزته الأولى، يولد حرّاً استثناء من مؤلفه الذي ينتمي للجموع التي تنصِّب الأصنامَ على غرائزها. المؤلف المدحور إزاء حرية كتابه، ينضوي إلى الجموع التي تقدم شعائر الاحترام للكتاب، تريده أن يغدو صنماً يضاف إلى أصنام الأرض. يضاف الكتاب إلى خزائن الأرض، ويغادر ذاكرته الطبيعية، ليدخل ذاكرات إلكترونية، أُعدت لترويض غريزته الهوجاء. إنه الحجْر نفسه الذي ميز عصور إعدام الكتاب، باعتباره مصدراً للشرّ، أو تقديسه باعتباره نصاً فوقياً، تستنسخ الكتب الأرضية كلها من أصله المحفوظ. لكن الكتاب يسير في الأرض جرّاً من قيوده. 3 ليتني استطعتُ تسجيل بيانات ذلك النمو البطيء، أو الاندفاع الأهوج لغريزتي الكتابية ثم الطباعية (بأوسع منتجاتها النفسية والجسدية). دعني أبدأ من نقطة هادئة مشتركة: يتعاظم شعور رفض الظلم الاجتماعي ببطء ورسوخ في وعي الشباب بعد انتقالهم من الوسط التربوي العائلي إلى الوسط المدرسي الأخوي، فتنشأ حول قاعات الدرس روابط طلابية تعيش تجربة الرفض المتوجسة لسلطة النظام الاجتماعي الصارمة في صورة منشور مجهول المصدر منسوخ على صفحة دفتر مدرسي. كان منشوري الأول قصيدة السياب (حسناء الكوخ) تناقلته الأيدي خلال دورة الصباح السرية. أوصلَتْ تجربة المنشور الأول الطالب الثانوي المندفع إلى حلقةٍ من أخويات مكسيم غوركي أودعَتْ عنده منشوراً ثانياً بعنوان (أنشودة الصقر). وما عتمت بذور المنشـورين أن أُخصِبتْ بقراءات كتب (الأم) و(أسـرة رومانوف) و(ستة وعشرون رجلاً وفتاة واحدة). شقّت الروايات قشرة الفترة الملكية حيث شقّت القشرة القيصرية في الموضع نفسه. داست الجزمات قشرة الجليد القاسي فتصاعد منها هواء تموزي ساخن، وانبثق (النص) الأول
خارج العاصمة .. فوات ما فات وما يأتي
نشر في: 4 يناير, 2010: 05:48 م