فائق بطي فلاح بسيط خسره الفلاحون قبيل ثورة 14 تموز، وكسبه المثقفون بعد الثورة.يضيع، فتجده متنقلا بين الاف الكادحين في ارياف الكوت، يدعو ويحرض وينظم تلك الجموع.يعلو صوته وهو ينادي: انكم امراء ارضنا المعطاء،لا (الاقطاعيين والسراكيل والافندية).
لا تخفي شخصيته صورته، انه فلاح ابن فلاح بسحنته التي احرقتها الشمس،عوده ينم عن طينة مجبولة بتراب الارض التي عشقها هو وكل الفلاحين في العراق.بكاه المعدمون في ارياف الكوت، وهو يشد الرحال الى المدينة الكبيرة،بغداد تناديه بعد انتصار ثورة 14 تموز 1958..قلة من الاصدقاء في العاصمة الثائرة قالت، جاءنا ابو كاطع.ومن وراء مذياع هنا بغداد، انطلق صوته بلكنة اهل الجنوب، وهو يجيب المذيع حافظ القباني على طلبه: "احجيها بصراحة يا ابو كاطع" فخرجت كلماته جهورية بسيطة ولكنها قوية مدوية، عشقها كل من استمع اليها منذ "الحجاية الاولى"، وباتت تلك الحكايات، من روائع ادب الريف في سجل الثقافة الوطنية العراقية بل العربية، في اثناء وبعد الثورة بسنوات وسنوات. ابو كاطع..كنت في مكتبي بجريدة (البلاد) اتصفح جرائد الصباح، عندما دلف اليها افندي بهندامه، فلاح بملامحه، وبشنبه الكث ، فظننته للوهلة الاولى انه مراجع جاء يتظلم، ومد يده وهو يكشف هويته: انا شمران الياسري.نظرت اليه وانا ابحث عن هوية وراء الصورة، من يكون هذا الشمران؟ قلت له لا صغرا بك، هل استطيع ان اقدم لك اية خدمة؟ابتسم وهو يداعب شعيرات شنبه، انا ابو كاطع!فنهضت اليه اصافحه بحرارة اللقاء، قائلا: " لعد دحجيها بصراحة من اول مرة!"ومنذ اليوم التالي: وجدت حكاياته عمودا يوميا في الجريدة يحمل نفس العنوان والمضمون حتى يوم افتقدته شخصيا والالاف من مستمعي الاذاعة وقراء (البلاد) في غيبة امتدت فترة ليست بقصيرة بعد انتكاسة الثورة. ***ثلاث محطات جمعتنا بعد السجن:الاولى: في ريف الكوت، حين تسللت مع الشهيد صباح الدرة وماجد عبد الرضا الى صريفته (ديوانه) خلال العمل السري المعارض لنظام العارفين، عبد السلام وعبد الرحمن، وهو يتحداني في الرماية من بندقية كانت مركونة على جدار الصريفة في الخارج، فنجحت مستغلا خدمتي في الجيش كضابط احتياط سابق، بينما سقط الرفيقان في الامتحان، واجاد هو في الرمي الكثيف، الى ان قاطعه احد الفرسان القادم اليه وهو يتخصر بمسدس والكلاشنكوف على كتفه، مترجلا من على صهوة الفرس، ومقبلا على تقبيل يده كغيره من الفلاحين الوافدين الى بيته (وكره) وهو يسحبها بهدوء ويربت على كتفه، ويطبع القبلة الرفاقية على خد كل قادم .سألت شمران: ارى الضيف يقبل يديك؟ فيجيب الشهيد الدرة: انه من السادة. الا ترى الراية الخضراء فوق باب الصريفة؟ وقال اخر: بل انه حبيب الفلاحين.المحطة الثانية: في مقر مجلة "الثقافة الجديدة" في الباب الشرقي مديرا لادارتها بعد ان احتاجه الحزب، كما احتاج هو اليه، بعد انقلاب تموز 1968، لاكمال مشروعه الكبير وطبع (رباعيته) الرائعة التي تعتبر من انجح الروايات الغنية في مادتها وفي عبرها ودروسها على لسان شخصية (خلف الدواح) والتي اعيد طبعها مرات عديدة وما يزال الطلب عليها يزداد ويزداد حتى يومنا هذا. وكان ابو كاطع قد افتتح ميزانية طبع الرباعية غير المكتملة في تلك الايام، بالاشتراك سلفا في سعر بيعها لاحقا، وهو اسلوب لم يبدع فيه غير شمران الياسري.. الفلاح المثقف القادم الى المدينة المزدحمة بالمثقفين المبدعين، ليكون بحق، احد اولئك الرائعين الذين اغنوا الثقافة الوطنية بنتاجاتهم الرائدة على مر الاجيال.المحطة الثالثة: كانت في جريدتي (التاخي) 1970-1971 ، و(طريق الشعب) منذ عام 1973..توليت سكرتارية تحرير جريدة (التاخي) بعد بيان 11 اذار بفترة قصيرة، وطلبت من رئيس التحرير الشهيد دارا توفيق، ان استعين ببعض المهنيين والكتاب للالتحاق بالجريدة، وكان ابو كاطع احدهم. لم يبخل الشهيد بالعطاء كما عهدته صديقا، فكان لي ما اردت، وعاد شمران الى عموده المحبب (بصراحة) وبنفس المضمون الشعبي وحوارات خلف الدواح، ليضيف الى سجله الابداعي روائع اخرى اجمل واقوى. وعندما انتقلنا الى (طريق الشعب)، ازدادت صراحته سهاما قاتلة ضد كل من اراد اعادة عجلة التاريخ الى الوراء، محذرا ومنذرا من مخاطر الانزلاق وراء سياسات القمع والارهاب الجديدين وتباشير الردة في اجواء (التحالف) تلوح في وضح النهار ناهيك عن ظلام الغدر والفتك (بالحلفاء) الجارية في الخفاء والسر.كان ابو كاطع يبكر في القدوم الى الجريدة، وما ان يأخذ مكانه المعتاد في غرفة يتقاسمها مع عبد الرزاق الناصري وزهير الجزائري، حتى يخرج (المسدس) الذي نتسلح به جميعا وفق اجازا
فلاح من زمن التوهج
نشر في: 6 يناير, 2010: 05:33 م