د. سيّار الجَميل اسمهان اكبر من مسلسل طلب مني بعض الاصدقاء ان اكتب شيئا عن مسلسل ( اسمهان ) التلفزيوني الذي عرض خلال شهر رمضان الفضيل ، خصوصا عندما تحدثت عنه شفويا في مناسبة ثقافية هنا في كندا .. وكنت قد تابعت هذا " العمل " المتميز لاغلب حلقاته باستثناء حلقتين او ثلاث ضاعت مني وانا في متاهة العمل وزحمة الانشغالات ..
وكنت اتمنى ان يحرص كل المهتمين على متابعة ليس المسلسل بحد ذاته ، بل اثارة ذكرى شخصية فنية عربية متميزة كان عطاؤها مدهشا ابان النصف الاول من القرن العشرين .. ثم اختفت بطريقة غامضة .. صحيح انني اسجل كل الاعجاب بالشخصيات التي اعادت كل من قصة وصوت اسمهان الى الوجود .. خدمات ونصوصا وبطولة وتمثيلا وتصويرا وانتاجا واخراجا ، ومقاربة تراجيديا اسمهان الى واقعنا اليوم في القرن الواحد والعشرين ، الا ان اسمهان نفسها ، اكبر من اي عمل فني او غير فني يجسد ذكراها الكبيرة ، وقيمتها الفنية .ان هذا الاسم الذي حفر نفسه في تاريخنا الثقافي والاجتماعي أكبر بكثير مما نتخيله على وجه الاطلاق ، ومهما بلغت درجة الاجادة من قبل اي انسان يتقمّص شخصيتها ، كي يغّني أغانيها ، او يمّثل دورها .. فهو يعجز تماما عن ادراك الطاقة التي امتلكتها اسمهان منذ ان لمع نجمها وحتى نهايتها المأساوية التي اودت بحياتها ، اذ بقيت تعيش نجمة في ضمائر اولئك الذين يدركون امكاناتها التي لا يضاهيها أحد من المطربين ابدا في الحياة الفنية العربية الحديثة . الخالدون لا يموتوناننا نعترف بأن هناك عمالقة من الفنانين والمطربين الذين اثروا الحياة الفنية العربية باعمالهم الغنائية ، وهم قلة قليلة وسط بحر من الاصوات المتنوعة ، ولكن اسمهان كانت قد تفوقت عليهم جميعا بقدراتها الهائلة التي نجح في توظيفها بعض اولئك الذين تعاملوا معها لأكثر من عشر سنوات ، فلنتصور كم كانت ستثري الغناء العربي المعاصر في القرن العشرين ، لو استمر وجودها لعقود اخرى من السنين .. ان رحيلها المبكر ، وبالطريقة التي انتهت اليها حياة اسمهان يعد من الناحية التاريخية اكبر خسارة منيت بها الثقافة العربية الحديثة التي طالما خسرت الكثير من المبدعين الذين لا يتكرر من امثالهم ابدا . ثمة سؤال اعتقد ان من الاهمية بمكان التفكير فيه مليا : لماذا كانت حياتنا العربية تخسر اقوى مبدعيها ، برحيلهم وهم في عز الشباب ؟ هل فكرّنا بنهاية كل من بدر شاكر السيّاب وناظم الغزالي وجواد سليم في العراق ؟ هل فكّرنا بنهاية كل من ابو القاسم الشابي وذكرى الدالي في تونس ؟ هل فكّرنا بنهاية كل من عادل خيري وعبد الحليم حافظ في مصر ؟ هل فكّرنا بنهاية كل من مها الجابري وربا الجمال في سوريا ؟ هل فكرنا بنهايات آخرين وآخرين ؟ وتبقى اسمهان غير كل هؤلاء على وجه الاطلاق .. واذا كان " المسلسل " التلفزيوني قد قدّمها الى عالمنا العربي اليوم ، وفاء لذكراها الطيبة ، واثارة لمجدها الغنائي .. وبالرغم من نجاحه على مستوى التصوير والاخراج والحبكة والاغنيات .. فهو يبقى اعجز من الوصول الى قامتها العالية التي بلغت الذروة ، والتي لم يستطع احد بلوغها لا على مستوى المرئيات ولا على مستوى الواقع ابدا . الخصلة الاوبرالية الفريدةهذا الكلام الذي اقوله هنا ، ليس من باب الاعجاب الفني حسب ، ولا من باب كوني تربيت لوالدين يعشقان صوتها .. بالرغم من سماعي اغنياتها وانا صغير من خلال ما يكون يدور في جهاز الكرامافون من اسطواناتها ، وما كان يذاع من اغانيها في محطات الاذاعة طوال الخمسينينات من القرن العشرين ، بل لأن اسمهان قد جمعت خصالا متميزة وفريدة على مستوى الصوت والحنجرة والشجن والاحاسيس.. وعلى مستوى الامكانات المقامية والاداء سواء في فرادة حنجرتها ، وطول نفسها ، ومقدرتها في الميانة او الجواب او القرار .. فضلا عن براعة الاجادة في اداء مختلف التلاحين النغمية التي لا يدركها الا اساتذة الطرب العربي .. وكما كتبت ونشرت قبل سنين طوال ، وانا اقارن بين ثلاثة انواع من الاداء الغنائي والتطريبي العربي ، وهي : الغناء الذي وصلت الى قمة الاداء فيه الفنانة القديرة فيروز ، ثم التطريب الذي وصلت الى قمة الاداء فيه الفنانة الكبيرة ام كلثوم ، اما الثالث فهو حاصل جمع الاثنين معا مع اضافة هائلة من الاداء الاوبرالي الذي وصلت الى قمة الاداء فيه الفنانة الخطيرة اسمهان . لقد حلّل صوتها أحد ابرز خبراء الاصوات ، فقال : " أسمهان صاحبة أكبر صوت في تاريخ الغناء العربي من حيث الخامة، فمساحة الصوت ورنينه الخاص وقدرته على التطبع لاتضاهى. مساحة صوت أسمهان تمتد إلى أكثر من ديوانين، أي ما يوازي أكثر من خمس عشرة درجة على السلم الموسيقي، كما أن لصوتها ميزة التطويع والتطبع مما جعلها قادرة على أداء الغناء الأوبرالي "صوت الرأس" والغناء الشرقي لنوتات الوسط والقرارات "صوت الصدر"، أما بالنسبة للرنين فلا نقول إلا أنه يمكن لأي مستمع بسيط تمييز صوت أسمهان عن صوت أي مطربة أخرى " . من هذه النقطة الفاصلة ، علينا ان نبحث عن اسرارها في الاداء ، وهي اسرار استطاع ان يكشف عنها كل من الاساتذة الراحلين : فريد غصن وداود حسني ومحمد القصبجي وفريد الاطرش ومحمد عبد الوهاب .. لقد نجح كل من القصبجي وفريد الاطرش ان يوظفا
أسمهان.. معنى الخلود
نشر في: 9 يناير, 2010: 03:48 م