ايمان قاسم بعد مرور خمسين عاما،أصبح بيترويل، الشخصية الرئيسية في رواية (النموذج) للكاتب البرتغالي لأرس سابي غريستونسيون، واثقا تماما من ماهية فنه وأهمية عمله. فحركات يديه تمثل نتاجا لحياة مليئة بالتجارب ومسكونة بفن الرسم.
ولطالما اعتاد على إيجاد ورشته (التي منع زوجته وابنته من دخولها ) مسكونة بلغز غريب وخالية من الأشياء التي تعكر صفو مزاجه، لغز يحثه على التأمل في عالم يتعذر سبر أغواره أو معرفة إسراره أو وضع نهاية لحدوده. وهذا الفنان ببساطة لا يرسم ما يشاهده لأنه يمتلك نفاد بصيرة تعوضه عن البصر الذي فقده في إحدى صباحات تشرين الأول حينما قضى أوقات طويلة ومضنية من الوحدة،بعدها لم يجد إمامه سوى العمى والسواد. والأمر الذي كان اشد اسودادا هو اليأس الذي جثم على روحه حالما أعلمه الأطباء بفقدانه البصر نهائيا نتيجة إصابته بالتهاب الشبكية الخضابية المزمن. وبعد مرور بضعة أسابيع على بدء العام الجديد، أصبح بيترويل أعمى تماما. وقد أفصح عن معاناته لصديقه المفضل (بين) قائلا: "لم اعد اهتم لشيء، لقد أمسيت عجوزا في اللحظة التي لم اعد أبصر بها النور، وفقدت رغبتي في قول النكات أو سرد الحكايات، وبت اشعر أن ثيابي لم تعد تلائمني أو لم تعد تليق بي على الرغم من إنني لا أرى شيئا منها". في بادئ الأمر، شعر هذا الرسام انه لا يستطيع العيش من دون ان يبصر. وتدريجيا، أدرك انه ليس بحاجة إليها أو إلى الطب ما دام ما تبقى لديه أفضل من ذلك. لم يكن الأفضل سوى هواجسه التي يلتقيها دائما بهيئة زميل قديم له في الصف. وبمرور الزمن المشوب بتفاصيل صغيرة، عبر بيتر عن لحظات التمرد والعنف أو مواقف الضعف والسكون لشخصية على حافة الهاوية.ويتضح أمامنا أن بيترويل أصبح -رغما عنه- الوجه الآخر لفاوست، الشاب الذي باع روحه الشيطان تلبية لأمانيه التي لا تتحقق في البهجة والمتعة الخالدة. فلطالما سخر من العلم الذي لم يمد له يد العون والحرية التي لم يسمع عنها شيئا. وأصبح هاجسه هو الرؤية من جديد. وقد حاول صديق المدرسة إقناعه مرارا بضرورة استبدال (القطع التالفة) أي عليه أن يأخذ بالرأي الذي فرضه عليه دكتور العائلة ألا وهو إجراء عملية جراحية تتمخض عنها إزالة عين المريض واستبدالهما بعينين زرقاويين لصبية صغيرة ومعدمة هائمة في شوارع الجمهورية السوفيتية الاشتراكية، لا احد يعرف بوجودها أو يهتم لأمرها. وعلى الرغم من رفض بيتر ويل إلا أن محاولات الإقناع استمرت من قبل صديقه القديم الذي يرى إن جسد الفنان شبيه بلوحته. فالمرمموّن يصلحون، في قاعات المتاحف الصغيرة، أدق التفاصيل واصغر الثغرات ويقفون طويلا عند الأماكن الصغيرة. كذلك الحال بالنسبة للأجساد التي تحتاج إلى العناية الدائمة والرعاية المتواصلة لأنها لا تبلى مع الوقت فحسب بل تفسد وتتعفن أيضا. وخلافا للفن المنطوي على لمسات لا تعنى بالزمان يتعرض جسد الرسام أياً كان إلى المرض أو السقم أو الفقر أو الموت. إلا إذا صرخ بأعلى صوته كي يسمعه الآخر (الهواجس) ويعقد معه صفقة رابحة للطرفين وهذا ما حدث لبيتر الذي نجح في الوصول إلى الطبيب الجشع الذي أراد اقتلاع عينا الطفلة إرضاءً لجيوب الرسام المليئة بالنقود. في الواقع يرى البعض إنه شعر أن حياته تساوي أكثر من إقرانه الآخرين بوصفه رجلا غنيا قادرا على الوفاء بالدين. وكان يقول دائما تلك الفتاة لم تحاول منح بصرها عبثا أو من اجل لا شيء. يرى هذا الفنان وعلى النقيض من (أوديب) انه لا شيء في العالم أكثر قيمة من امتلاك عينيين مبصرتين، فطالما يرى المرء فهو يشعر بالحياة تسري بين جنبات عروقه. و تعد(النموذج) عملاً وسيطاً لروايتين عملاقتين هما (الشقيق من الأم) التي جرت أحداثها في مدينة (اوسلو) وتحديداً في خمسينيات القرن العشرين حيث عاش فريد مع شقيقه من أمه (بارنوم) في كنف نساء ثلاث هن: الأم والجدة ووالدة الجدة. نجد فيها عائلة ذات تاريخ عريق ومأساوي، كل فرد منها له أسراره الخاصة ومواقفه العصيبة وجراحه التي لا تندمل. أما الرواية الثانية فهي بعنوان (البيتلز)، الاسم الذي أطلق على فرقة إنجليزية لموسيقى (البوب). ويتحدث فيها عن ثلة من المراهقين عاشوا في ستينيات القرن العشرين ومنهم أربعة متميزين: غيم وغوتارد اولاوسيب. أجتمع هؤلاء في مكان واحد تحذوهم غاية واحدة ألا وهي شغفهم ورغبتهم الكبيرة في الانتماء إلى فرقة(البيتلز). وبمرور الوقت نرى هؤلاء يتأرجحون بين قصص الحب وأحلام الشهرة المحاطة بالإحباطات اليومية. سردت مغامرات هؤلاء المراهقين من قبل (كيم)، البطل الأكثر طموحاً والأرق مشاعراً في الوقت ذاته. وعبر هذه المغامرات، يصف لنا الكاتب، أحداث فيتنام المريعة وبنايات باريس التي اندثرت تحت وطأة المتاريس وقصة النرويج التي ترددت طويلاً قبل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ولا ننسى أن كل فصل يحتوي على عنوان وفكرة لإحدى أغاني هذه الفرقة، فهي باختصار أربعة حيوات ملحنة على أنغام (البيتلز)... نموذجهم المثالي. وتعد هذه الرواية مصدراً هاماً للأدب النرويجي المعاصر. وعلى غرارهاتين الروايتين السابقتين، تعبر النموذج عن مأساة عائلية، فبيتر ويل الرسام المعذب الذي
عبقرية العمى.. الــــوجــــه الاخــــر لـــفــــاوســــت
نشر في: 12 يناير, 2010: 07:29 م