ماهر موسى العبيدي كنت أشاهده غالباً بأناقته المعهودة يسير في الامسيات الجميلة في شارع أبي نواس حتى أبلغني صديقي خريج كلية التربية بأن هذا الشخص هو استاذ التاريخ العربي في جامعة بغداد- كلية التربية- قسم التاريخ، وهو مؤرخ كبير في تاريخ العرب قبل الاسلام خصوصاً،
وبعد أن أصبحت قريباً منه بعد سنوات عدة كنت استمتع بالحديث معه في قضايا البلد عموماً والمسائل التاريخية خصوصاً، وكان أكثر ما يعجبني فيه هي آراؤه في الاحداث التاريخية حيث كانت آراؤه علمية موضوعية وليست سردية سطحية كما اتصف به بعض مؤرخي كتب التاريخ .كان رحمه الله دمث الأخلاق، متواضعاً الى أبعد الحدود شغوفاً بالكتابة والبحث في تاريخ العرب قبل الاسلام وكانت من أهم مؤلفاته في هذا الجانب موسوعته الشهيرة الموسومة بـ(المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام) وقد استمر في بحثه وتأليفه- بعد ذلك- في الكتابة عن تاريخ العرب في العصر الاسلامي وكانت ولادة جل مؤلفاته وما خطّه قلمه وما جال به فكره في البحث والتقصّي، كانت في شقة متواضعة في عمارة (جميل حافظ) تقع في شارع الرشيد، عاش وفضّل البقاء وحيداً فيها.وقد أعجبني المرحوم الدكتور جواد علي في آرائه التأريخية الموضوعية وآرائه الأخري ومنها التي لن أنساها رأيه في أسباب هجرة الكفاءات العلمية من بلدنا الذي أجراه في تحقيق صحفي وفيه أشار الى محاور رئيسة في أن أسباب هجرة الكفاءات العراقية، هي أسباب علمية واعتبارية وليست أسبابا مادية بحتة، كون أصحاب الكفاءات قصدوا جامعات أجنبية ذات أساس علمي رصين سبيلاً للبقاء في أجواء علمية واكاديمية عالية المستوى الى جانب توفر الامكانيات اللازمة لاجراء البحوث والدراسة من أجهزة حديثة وكتب ومجلات علمية، وهناك عامل ثان ومهم، هو ان الباحث العلمي العائد من الخارج قد يعود ويجد الجامعات تفتقر إلي ادني المتطلبات الدراسية والامكانيات العلمية التي يحتاج إليها الاكاديمي العراقي، وقد يجد المسؤول عنه لا يفقه شيئاً في علمه أو ادارة منصبه وتعامله مع رعيته فيشد الرحال من حيث اتى، حيث يجد الآفاق الرحبة في تلك البلدان.وقد مرض الدكتور جواد علي المؤرخ العظيم وطال مرضه ولم تلتفت إليه وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ولا وزارة الثقافة والاعلام ولا المجمع العلمي العراقي الذي كان عضواً فيه، وحصل على هذه الالتفاتة ولكنها كانت متأخرة بعد أن نخر المرض جسده، وبعد أن طلب الرئيس اليمني السيد علي عبد الله صالح من سفيره في العراق استحصال موافقة الحكومة العراقية لنقله إلي أرقي المستشفيات الامريكية على نفقة الحكومة اليمنية وفاءً من الشعب اليمني لأصالة ما كتبه عن تاريخ اليمن فسارعت الحكومة العراقية آنذاك بنقله الى مستشفى ابن البيطار ولم ينفع العلاج فيه شيئاً.وفي حفل تأبينه المتواضع ألقى الاستاذ الدكتور حسين علي محفوظ كلمة رائعة في رثائه ولكن أهم ما قاله فيها بحق هذا المؤرخ الكبير، ان المؤرخ الطبري سأل النساخين إن كان باستطاعتهم كتابة كتاب كبير فسألوه كم صفحة هو، قال لهم عشرة آلاف صفحة فأجابوه بأن ذلك يفني العمر يا شيخ، وقد أضاف العلامة محفوظ في كلمته، ان المرحوم الدكتور جواد علي كانت في يده ندبة منذ الولادة، وعن هذه الندبة قالت احدى العرافات لوالدته عندما رأتها وهو طفل ان ولدك هذا سيكون كاتباً كبيراً وتحقق ذلك حيث كتب بهذه اليد الكريمة وفي شقته الصغيرة موسوعة كبيرة في تاريخ العرب قبل الاسلام يحتوي علي أكـــــــــــــثر من أربعين ألف صفحة تعد المرجع الوحيد والاصيل وبهذه السعة في تاريخ العرب قبل الاسلام.كان رحمه الله متواضعاً مرحاً دائــــــماً، كان الجلوس معه والحديث معه من أمتع السويعات التي ألتقي فيها معه في الاعياد خصوصاً ولم يكن في آرائه متطرفاً أو منحازاً لأية جهة أو طائفة أو دين أو عنصر، كيف يكون ذلك وهو الكاظمي الذي درس الفقه في كلية الامام الاعظم وهو الجعفري وزوجته سنية وهو الذي كان يحب الجميع ويحترمهم والذي كان العراق في قلبه وضميره فأبى مغادرته حتى مات ودفن فيه.أين جامعة بغداد من تخليد أساتذتها الكبار وأين التكريم الذي يستحقونه وأين يذكر اسمه واسهاماته كما يقتضي الوفاء لهؤلاء العظام وفي مقدمتهم المؤرخ الكبير والاستاذ المتواضع جواد علي رحمه الله، أدعو وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الى الالتفاف لذلك.
جواد علي مؤرخ عظيم وأستاذ متواضع
نشر في: 13 يناير, 2010: 04:40 م