في غيبة وهروب وتواطؤ الكثير من الاصوات الادبية المصرية (المرموقة) تبقى قلة قليلة من الاصوات الادبية الشابة ملتزمة بشرف الكلمة المسؤولة النظيفة اذ تنبع من قاع المدينة الكبيرة المحكومة بالصمت والظلام وقبضة الهجمة الرجعية الساقطة. وتجهد ان تعبر نبض الضمير الممزق بين مخالب النقمة والمهانة وجوع الذل ومرارة التعطل عن كل فعل من اجل الحياة الحرة الكريمة..
والشاعر الشاب (امل نقل) واحد من هذه الاصوات المتطلعة الى ان تواصل رحلة الكلمة الشريفة في صياغتها لقوانين الواقع الراهن في مصر الاسيرة بحكم الخيانة والعمالة والتسلط الطبقي، فهو عبر مشهد وصفي بالغ التركيز يرينا حقيقة مصر اليوم: مصر المدينة والربان والوجه التي كانت مرموقة، مصر الهزيمة الكاسحة: اشعر الان اني وحيد وان المدينة في الليل (اشباحها وبناياتها الشاهقة) سفن غارقة نهبتها قراصنة الموت ثم رمتها الى القاع منذ سنين اسند الرأسس ربانها فوق حافتها. وزجاجة خمر محطمة تحت اقدامها وبقايا وسام ثمين. وتشبثت بحارة الامس فيها باعمدة الصمت في الاروقة يتسلل من بين اسمالهم سمك الذكريات الحزين وخناجر صامتة وطحالب نابتة وسلال من القطط النافقة ليس معي ما ينبغي الان بالروح في ذلك العالم المستكين غير ما ينشر الموج من علم.. كان في هبة الريح والان يفرك كفيه في هذه الرقعة الضيقة سيظل على الساريات الكسيرة يخفق حتى يذوب رويدا رويدا ويصدأ فيه الحنين دون ان يلثم الريح ثانية، او يرى الارض او يتنهد ..من شمسها المرحقة (ص56) ومن المسؤول عن هذه النهاية البائسة الغريبة ؟ من المسؤول عن الذين يولدون ساعة ميلادهم في قاع الصمت والتعاسة والرعب؟ اهي الام: مصر (امرأة خاطئة –نهودها دافئة –ولحمها معطر النكهة –ص75) ..ام هو كلب التسلط والقمع..رجل المباحث الباقي (بين خيوط يديك المشتبكتين المصمغتين يلف الفراشة والعكنبوت-ص9)زز ام هم السادة الصيارفة الجبناء( يقتسمون صغارك فوق صحاف الطعام –بعد اشعلوا النار في العش والقش والسنبلة –وغدا يذبحونك بحثا عن الكنز في الحوصلة –ص26).. ام هم: (الاناس الميتون يحملون اكفانهم اطيارهم ليست الى اعناقهم يستفسرون: ماذا اتى بنا هنا؟!) .. ام هو الشاعر ابن الفقراء ، ابو نواس الجديد: ارتضى ان يكون وصاحبه الفقير: (قطرتين على سلم القصر –ذات مساء وحيد – كنت فيه نديم الرشيد – بينما صاحبي يتولى الحجامة –ص82) ذلك انه يدرك هذه الحقيقة الصارخة المرة: (من يملك العملة يمسك بالوجهين – والفقراء بين بين –ص82)؟ اما دنقل .. لفرط اخلاصه لرؤياه الشعرية وجرأته في رصد الصورة الشاملة: صورة الهزيمة والتواطؤ والتعطل، يملك الحرية الكاملة في توزيع المسؤولية على الجميع دون ان ان تغيب عنه الحيثيات والجور وسبل الخلاص..فلئن كان يعترف باثر الهزيمة على موقع الشاعر ودوره: (لوثتني العناوين في الصحف الخائنة لونتني.. لأني منذ الهزيمة لا لون لي غير لون الضياع –ص28) فهو لم يعد ذلك الثأر التقليدي الصامد برغم عصف الرياح: (الظل الخائف –يتمدد من تحتي –يفصل بين الارض وبيني –وتضاءلت كحرف مات بأرض الخوف (جاء ..باء) –(حاء.. راء.. ياء.. هاء) –الحرف السيف –ص39) ، وليس هذا الاوجها واحدا من القضية، هو وجهها الذاتي، القريب المرتبط بغياب الحب والحرية.. ذلك انه في قصيدته الثائرة: (اغنية الكعكة الحجرية) يواصل ما بدأه في ديوانه الاول: (البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) فالشاعر هنا عبر النداء الهادر وتوزيع اللقطات المتجانسة المترابطة باللازمة البليغة (دقت الساعة) يبعث صوت الشعراء الصعاليك والفتيان والشطار يرصد به ثورة الجماهير الكادحة المحرومة ويباركها ويسهم فيها ويدعو الى اذكائها بالغضب الملتهب موحدا بين الذات والاخر والجماعة: (يشعلون الحناجريستدفئون من البرد والظلمة القارسة يرفعون الاناشيد في اوجه الحرس المقترب يشبكون اياديهم الغضة البائسة لتصير سياجا يصد الرصاص الرصاص.. الرصاص.. وآه يغنون: (نحن فداؤك يا مصرنحن فداؤكالمنازل اضرحة ، والزنازن اضرحة ، والمدى اضرحة فأرفعوا الاسلحة! ارفعوا الاسلحة –ص30-32) يواصل امل دنقل في مجموعته (العهد الاتي) استثمار ادواته الشعرية المرعوفة: اللقطات اليومية الواقعية، اسلوب المونتاج والسيناريو التضمين وتحوير التضمين ، لغة الحوار اليومي، توظيف القافية المكررة لخدمة الغرض والحوار، التدوير المكثف لتجسيد القصيدة – النفثة صلاة ، خاتمة) ..ويوفر لقصائد المجموعة وحدة داخلية بفضل الاستفادة من شكل الاسفار الدينية، بحيث تبدو القصيدة سفرا جديدا يضم اصحاحات جديدة.. وتتم الاستفادة من النصوص الدينية على مستويين. rnالاول –استعارة الشكل والايقاع من نصوص بعينها وشحنها بمعان جديدة ومغزى معاصر يفيض بالتهكم والنقمة والفضح الساخر لحقيقة الموقف.. والثاني: توفير موسيقى داخلية تعزز طابع السخرية وتعود بالقصيدة الى النصوص النثرية المعتمدة على عنصري الطابق والجناس: (تفردت وحدك بالسر، ان اليمين لفي الخسر، اما اليسار ففي ا
العهد الاتي وازمة الضمير المصري
نشر في: 15 يناير, 2010: 04:59 م