د.حاتم الصكَرتقدّم كثيرٌ من القصائد نيرانها في موقد محيّر ، انها تخفي ذاكرتها في رماد عقيم بينما تتأجج المخيّلة بلهب عارم سرعان ما يسري ليضيء المشهد كلّه . ان ذاكرة من رماد ، ومخيّلة من لهب ، تعطي تلاوين غريبة في القصيدة الحديثة التي يناصب فيها الشاعر ذاكرته عداءً متعمّداً:
 فهو يستحضر الذكرى القديمة التي تخلقها التجربة او المعرفة او التربية ثم يلقي بها في قعر الموقد ، كي لا يحس بها القارئ وهو يصطلي بنار تؤججها المخيّلة : انه يتحرر من ذاكرته بمجرد استحضار مفردة من مفرداتها..لتبدأ المخيّلة عملها مستديرة بالرمز كله الى حيث يريد الشاعر ان يكون تجاه الريح التي تزيد جمرات موقده الشعري توهجاً .قد يبدو الشاعر ذو المخيّلة سطحيّاً لأول وهلة ، فهو يتعلق بموضوعه من أوهى نقاطه واقلها جذبا وهو لا يثير ذاكرة عامة لأن له ذاكرته الخاصة التي تعمل في خدمة مخيلته فتحيل ما يستحضره استذكارا الى مفردة في اشتعال المخيلة التي تبني موضوعا شاهقا في العادة.وازاء قصيدة من نوع كهذا يجد القارئ نفسه في رحلة بعيدة الهدف يبحر مع الفكرة وهي مجنحة مرتفعة على ما استندت اليه وتحركت منه.وقصيدة الشاعر الراحل امل دنقل (23-6-1949 ، 21-5-1983) التي جعل عنوانها (مقابلة خاصة مع ابن نوح) لا تأخذ من الذاكرة الا فقرة واحدة حين يجيء الطوفان الكبير ويتحقق وعد نوح لقومه ، يرفض ابنه ان يركب السفينة غير مصدق بنذر ابيه ...شأن الآخرين متعللاً بأنه سيأوي الى جبل يعصمه من الطوفان.ذلك وحده ما استرجعه الشاعر من نبأ الطوفان مكتفيا من ذاكرته التي كونتها المعرفة (الرواية القرآنية للطوفان ومروق الابن وغرقه ) والتي عززتها التربية في الصغر فليس في هيكل القصيدة أكثر من وحدتين أساسيتين هما : فداحة الطوفان واصرار الابن على عدم ركوب السفينة فهما وحدهما يخدمان سياق النص اما التفصيلات الاخرى فقد احتلت المخيلة مساحتها في عملية طرد شعورية مقصودة .ترى ماذا كانت ستمده به الذاكرة لو ان الشاعر استهان بروايات الطوفان الثلاث كما وردت في (ملحمة جلجامش وسفر التكوين والقرآن؟).***ان (الآلهة العظام) – تقول الملحمة العراقية الخالدة 0- قد حذروا (اوتو –نبشتم) من الطوفان الذي سيحل بمدينة (شروباك) وامروه ببناء الفلك وحين سألهم عما سيقوله لأهل مدينته اجابوه :قل لهم هكذا اني علمت ان (إنليل) يبغضني فلا استطيع العيش في مدينتكم بعد الآن ولن اوجه وجهي الى ارض (انليل) واسكن فيهابل سانزل الى الـ(ابسو)واعيش مع (ايا)وانتم سيمطركم بالوفرة والفيضومن مجاميع الطير وعجائب الاسماكوستملأ البلاد بالغلال والخيراتوفي المساء سيمطركم الموكّل بالزوابع بمطر من قمحوعلى هذا تسير الملحمة في ذكر الطوفن فتسرد وعيد (اوتو – نبشتم) لأهل مدينته وبشارته ايضا فهو اذن يرغبهم ويرهبهم في آن واحد.والذي يهمنا بعد بناء السفينة وصف الطوفان المدمر الذي نقلته الملحمة شعرا رائعا يعتمد الايجاز وبراعة التصوير وبلغت رعود الاله (ادد) عنان السماءفاحالت كل نور الى ظلمة وتحطمت الارض الفسحة كما تتحطم الجرة وفتكت بالناس كأنها الحرب العوانوصار الاخ لا يبصر اخاهلقد عادت ايام البشر الاولى طينا كما تقول سيدة الآلهة نادمة لانها سلطت الدماء على خلقها وها هم (قد ملأوا اليم كبيض السمك).لقد همل اوتو بنشتم في سفينته كل ما يملك واركب فيها جميع اهله وذوي قرباه دون استثناء حسب الرواية العراقية للطوفان وعنها اخذت التوراة تلك التفاصيل فلا تذكر ابنا متمرداً بل تقرأ في سفر التكوين ما نصه (صار طوفان الماء على الارض فدخل نوح وبنوه وامرأته ونساء بنيه الى الفلك من وجه مياه الطوفان ، ثم تسمي اية اخرى ابناء نوح الثلاثة الذين ركبوا معه يام وحام ويافث.واذ يسهب سفر التكوين في مقدمة الطوفان واسباب ابتلاء الناس به لأن الارض امتلأت ظلما منهم فها انا مهلكهم مع الارض نراه يوجز في وصف فداحة الطوفان الذي يحدد زمنيا باربعين يوما تعاظمت فيها المياء وتغطت الجبال الشامخة ومات كل ذي جسد كان يدب على الارض.ولا ترد اشارة لتمرد ابن نوح في التكوين الا ان الابن الصغير حام يبصر عورة ابيه الذي غدا فلاحا يغرس الكروم فيخبر اخويه بذلك فاستحق لعنة ابيه الذي دعا عليه ليكون عبدا لعبيد اخوته!وفي الرواية القرآنية وهي اقرب المؤثرات واشدها في ذاكرة الشاعر نجد ان نوحا يلاقي رفضا وهزءا من قومه الا انه يواصل بناء الفلك بأمر ربه مكررا وعيده لقومه ( حتى اذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين واهلك الا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه الا قليل ) وتصف سورة هود ما كان من امر ابن نوح (وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن من الكافرين قال سآوي الى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من امر الله الا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين )في عدة آيات يرد ذكر الطوفان تاليا لنذير نوح لقومه كما تستوفي الرواية القرانية ما يحصل للسفينة بعد انحسار الماء بأمر الله واستقرارها على اليابسة وبدء الحياة من جديد.تلك هي العناصر التي تشكل في الذاكرة مادة الطوفان بشقيها وصف فداحة الطوفان ورهبته ثم وصف العصي