محمود عبد الوهابأريد بالكاتب هنا، فاعل الكتابة ومنتجها، ممن عُرف بخصائص ما يكتب، وبأسرار ما يكتب، سواءٌ أكان ذلك الكاتب، روائياً أو قاصاً أو شاعراً أو دارساً، وما أتطلبه من العنوان، الإمساك بوظــيفة "الإهداء" على المستويين العـــام والخاص، بحسب "جينيت": المستوى العام حينما يتموضع الإهداء مطبوعاً في الصفحة التي تلي صفحة العنوان عند صدوره،
والمستوى الخاص حينما يُهدِي الكاتب نسخة من ذلك المنجز المطبوع بخط يده وبتوقيعه، إلى عدد من الأصدقاء أو إلى عدد من المؤسسات الثقافية يختارها. بنية الإهداء، في الحالة الأولى، وعلى مستواها العام، تعدّ في ضوء الدراسات السيميولوجية، وفي الحقل الإبداعي تحديداً، عتبة من عتبات النصّ أو الكتاب، وتقع موضعياً في محيط النص، أي خارج متنه، وترتبط به بأنساق، فهي إذن ليست عتبة تزيينية ولا شكلاً زخرفياً ولا ملفوظاً اعتباطياً، إنها إشارة دالة وقصديّة، وبلاغ تحتسب وظيفته داخل النصّ، يضخّ دلالته في مكتوبات النصّ، فالنصّ يكون قاحلاً من دون واحة العتبة التي تحيط به، وإن أيّ تعطل في وظيفة العتبة "الإهداء" يسبّب انقطاعاً في التواصل الدلالي بينهما، وأكثر ما يحصل ذلك الانقطاع، في حقل الدراسات والأبحاث، إذ يتوجه الإهداء فيها إلى مرجعية خارجة عن أنساق المنجز، وقد يحصل ذلك في المنجز الإبداعي أيضاً إذا ما أغفل المبدع هذه العلاقة. في كتاب "بابا همنغواي – مذكرات شخصية" أهدى (هـ . همنغواي) ابن الروائي همنغواي مؤلفه إلى "تيد هاكر" و"السيد بديار" وآخرين، امتناناً لمساعدتهم في البحث والتحرير والتشجيع، فالإهداء في هذا الكتاب، وهو من كتب الدراسات والأبحاث، عتبة منقطعة، في دلالتها، عن أنساق متون البحث داخل الكتاب، لتعالقها بأشخاص حقيقيين خارجه. أما في الرواية والقصة والقصيدة، وهي كتابات في الإبداع، فأرى - وهو رأي شخصيّ محض - أن عتبة الإهداء في منجزها المطبوع، ينبغي تفعيلها وتنشيطها، لتحقيق وظيفة دلالية داخل النص، فإذا كانت العتبة، في الدراسات والبحوث، دلالة امتنان خارج أنساق الكتاب، فإن العتبة في النص الإبداعي حالة داخل النصّ وجزء من وحداته، فليس هناك من أحد، خارج النص الإبداعي غالباً، عضّد المبدع في تشييد نصه، غير ذاته وتخييله. وعلى المستوى الخاص، يُهدي الكاتب نسخة من نصوصه أو قصائده أو رواياته المطبوعة إلى صديق أو زميلٍ، وغالباً ما يكونان من مجانسيه في الكتابة، ويُعرف مثل هذا الإهداء بـ "الإهداء بالتوقيع" أو الإهداء الخاص، وغالباً ما تكون عبـارة الإهداء - وهذا ما هو واقع فعلاً عند عدد من الكتاب- تحمل حكم قيمة عليا مثل "إلى المبدع الكبير .. أو الشاعر الكبير.." ما ينبغي للكاتب أن يتجنّب مثل هذا المعيار النقدي، إن كان بدافع المجاملة، فليس الكاتب ملزماً بذلك، وأن يكون الإهداء، دالاً على علاقة الكاتب بصاحبه، وما يجمعهما من مشتركات في الكتابة وفي غيرها. أدرج هنا الإهداء الخاص، مثالاً لا نموذجاً، ما كتبه الصديق الراحل مهدي عيسى الصـــقر إليّ , وبخط يده على مجموعته القصصية " مجرمون طيبون": "خطوات متعثرة، وطريق شاق طويل، إلى زميل يحاول جاهداً مثلي العثور على الطريق المنشود" 19/2/1954 وكتب على مؤلفه "وجع الكتابة": "هذه الأوجاع عشناها وعايشناها . لقد أفسد الأدب حياتنا، لكن ماذا كان بوسعنا أن نفعل، خصوصاً بعد أن شابت الرؤوس، ولم يتبقَ عندنا غير القلم يتحرك في شيء من الطيش والعنفوان". كانون أول 2001 وهكذا نجد أن إهداء الصقر ظلّ يؤكد، على الرغم من تباعد سنوات الإهداء، حالة نمو وشغف بالكتابة بين صديقين اشتركا في الهمّ الأدبي منذ شبابيهما، بعيداً عن أية إشارة إلى حكم قيمة، يخلعه الصقر على صاحبه. ومن هنا، فالكاتب في إهدائه، العام والخاص، يسعى إلى الحفاظ على علاقة الإهداء بعضوية النص في الحالة الأولى، وعلى العلاقة الواقعية للُمهدى إليـه في الحالة الثانية، بعيداً عن أحكام معيارية تتناول مستوى الإبداع.
اوراق: الكاتب وإهداءاته
نشر في: 19 يناير, 2010: 05:48 م