جمال جصاني يبدو اننا (سكان هذه الاوطان القديمة) نحتاج الى الكثير من الجهد، والمزيد من التجارب الخائبة، لكي نتلمس الطريق المؤدي الى آخر نفق الادغال المتضافرة من الاشتباكات والثارات وموروثاتها في خنادق اللاشعور.
فبعد ان نجح الضابط القوزاقي المغمور رضا، في انتزاع لقب الشاه وبسط سلطته الحازمة على مختلف المدن والاقاليم المعروفة اليوم باسم ايران، فشل في مهمة تزريق نسخته من الاتاتوركية على ماتبقى من الدولة القاجارية. ولم يمر وقت طويل حتى ازاحته القوى العالمية المتنفذة آنذاك لتأتي حقبة ابنه صاحب عرش الطاووس. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وفي السنوات الاولى من حكم محمد رضا شاه، عام 1947 ولدت شيرين عبادي لعائلة ميسورة الحال تنحدر من مدينة همدان (حيث المحطة الاخيرة للشيخ الرئيس ابن سينا). ومنذ خطواتها الاولى في دروب الحياة، اصطدمت باستدارات الاقدار الحادة، حيث تحتفظ ذاكرتها الطفولية بذلك الحدث التراجيدي في تاريخ ايران المعاصر، عندما اطاحت مخلوقات البرك الآسنة بدعم وتخطيط من قبل اجهزة الـ (CIA) بأول رئيس حكومة منتخب (الدكتور مصدق) والذي قالت السيدة عبادي في مذكراتها عنه: (مصدق، قاد أول انبعاث وتوهج للديمقراطية، اختبرته ايران منذ قرون). وكما استنسخت بعد عقدين تجربة (الجنرال – الدمية) في شيلي ضد الرئيس المنتخب سلفادور الليندي، هرست مجنزرات الجنرال زاهدي المتجحفل وحثالات الريف واوباش المدن اول تجربة فتية للديمقراطية في بلاد فارس. لقد القت تلك الاحداث بظلالها على اسرتها، وصار الوالد (كان نائب وزير الزراعة في حكومة مصدق) كثير التواجد في المنزل بعد ان جرد من مسؤولياته المهمة. ومن الاهمية بمكان الاشارة هنا الى تلك الاجواء الاسرية التي صنعت من شيرين عبادي مانعرفه ويعرفه العالم كله عنها؛ مناخ اسري بعيد كل البعد عن ترسانة الموروث الشرقي المعادي للانثى، يصعب فيه على المهتمين العثور على مفردات من نسيج (المحرم) في قاموسها الشخصي والاسري، لذلك شقت طريقها في معترك الحياة بثقة وحزم لا يلين. عام 1970 اصبحت أول قاضية في المحاكم المدنية للعاصمة طهران، وعلى الرغم من طفح الحداثة القشرية والذي تسربلت به مختلف مناح الحياة في المدن الايرانية والعاصمة طهران خاصة، الا ان جوف البنية التحتية كان يمور بالقيم التقليدية والموروثات المتحجرة، وهذا ما ادركته القاضية الشابة، في تردد الرجال من الاقتران بها بعد ان يعرفوا مهنتها غير المألوفة ومخزونات الرأسمال الرمزي للشوارب....غير ان الاقدار كانت اكثر انصافاً من ذلك الموروث، فبعثت لها من يدرك مكنونات هذه الشخصية النادرة، ليوافق ان يكون شريكاً لا مالكاً كما نصت عليه تشريعات الذكور. ورغم ادراكها لطبيعة النظام الشاهنشاهي المعادية لروح الديمقراطية والعدل وحقوق الانسان، الا انها واصلت عملها بين ردهات وزارة العدل والمحاكم المدنية في طهران وعن تلك الحقبة تقول: (على الرغم من ان الناس كانوا يرتجفون من مجرد ذكر اسم (السافاك) فقد ظلوا يثقون بالنظام القضائي، ويؤمنون بصدق؛ من ان القانون يحمي حقوقهم). وفيما هي تواصل كفاحها في تثبيت هيبة القانون، واصلت دراستها الاكاديمية وحصلت على شهادة الدكتوراه في القانون. وعند اندلاع الاضطرابات الشعبية المناهضة للنظام الملكي المباد، شاركت القاضية شيرين عبادي في تلك النشاطات المعارضة للنظام القائم آنذاك، وعندما شاهدها مسؤولها الاعلى ضمن الوفد الذي قدم له مطالب عدد من منتسبي وزارة العدل المتضامنة مع مطالب الانتفاضة الشعبية. قال لها متعجباً: كيف تقفين الى جانبهم وهم ان وصلوا الى السلطة سوف لن تجدي لك مكاناً على منصات القضاء..ً؟! وذلك ماحدث تماماً، عندما اندفعت الى ردهات ومؤسسات القضاء، مومياءات شاردة من مغارات القرن السابع الهجري ولم يمر وقت طويل حتى استدعاها (حاج آقا) القضاء الجديد، طالباً منها الالتحاق الى وظيفة ادارية. ومنذ تلك اللحظة ادركت ان عليها مهمة النهوض بواجبها المهني والوطني والحضاري في التصدي لهذا الفهم المتخلف للاسلام. وفي كتابها (يقظة ايران؛ مذكرات الثورة والأمل) كتبت تقول: (طوال السنوات الثلاث والعشرين الماضية، أي منذ اليوم الذي عزلت فيه من منصبي كقاضية، بقيت اردد مع نفسي؛ ان تفسير الاسلام بطريقة تنسجم مع المساواة والديمقراطية، يشكل التعبير الحقيقي عن الايمان. فليس الدين هو الذي يكبل النساء، بل الاوامر الانتقائية لاولئك الذين يريدون ابقاءهن معزولات عن العالم...). فتحت ذريعة (الحرب المفروضة) لم تتوان السلطات الجديدة من استخدام ابشع اساليب البطش في تصفية المناوئين لسياستها وتشريعاتها المتخلفة والتي حولت مؤسسة القضاء من ملاذ للمظلومين وأصحاب الحق المهدور الى حشود من نسل (مسرور) وهراوة مشرعة للدفاع عن الامتيازات الجديدة. كان فيها لآية الله خلخالي قصب السبق (أول رئيس للمحاكم الثورية) وتلامذته الجدد الذين يدعون اليوم لإعدام المحتجين على نتائج الانتخابات الاخيرة.بعد حزمة التقارير المقدمة اليه، عن الحالة الكارثية لمدينة لندن والمدن الكبرى، بعد الحملات الوحشية للطائرات الهتلرية عليها، لم يسأل
بمثل شيرين عبادي... يعتدل الميزان
نشر في: 22 يناير, 2010: 03:43 م