علي حسن الفوازفي الذكرى السادسة لرحيل عبد الرحمن منيف نتلمس كثير ما علق في الذاكرة، وماعلق على جلودنا، امكنتنا الطاعنة بالانتظار والملح والوجع، نستعيد معه الكثير من احلامنا واسئلتنا وهزائمنا، لان عبد الرحمن منيف لم يكن كاتبا طارئا في المكان العراقي رغم كل انشغالاته التي يشوب بعضها القلق والارتياب، بقدر ماكان حالما وباحثا عن سرانية ماتحت الجلد(القومي)
من ازمات وحرائق وعذابات ذهب اليها(شرقه المتوسط) واغتيل عندها(مرزوق) ونبتت على سطوحها مدن هائلة للملح..كان منيف واحدا من شهود هذه الاحلام والاسئلة والهزائم. اذ ادرك مبكرا رعب ما تتركه الاسئلة من اثر عميق وفادح في المكان والوجدان والخطاب. يرصد منيف عوالم خبيئة في المكان العربي المأزوم، يكشف عن عمق ما يمور به من حيوات متصادمة ومتشابكة، حيوات تحوز على شروط مغايرة للحياة، تلتقي عندها شخصيات ومصائر، تقف عند عراء هذا المكان، تتلمس عند صحرائه وازدحام حيواته عوالم واهمة بالامتلاء. تصطنع لها مزيجا من السرديات التي تتقصد في وعيها الاشكالي اثارة الكثير من الغبار، مثلما تتقصد في قراءتها السرية للتاريخ المكشوف على حروب غامضة وموتى غامضون وسجون غامضة وعقائد اكثر غموضا، تلك يختلط فيها السياسي مع الديني، الايديولوجي مع السحري، البدوي مع الغرباء الجدد، فضلا عن ما استفزه من مفارقات اكتنفت جوهر المستويات الصراعية للسرد والتاريخ، اذ لاسرد ولا تاريخ دون هذاالصراع الذي بدا في شرقنا السحري والسياسي مكشوف على صناعة هائلة للموت. في هذا السياق نجد عبد الرحمن منيف من اكثر كتّابنا السرديين انحيازا لفكرة تجسيد قيم الصراع عبر استحضار ثيمات التاريخ ذاته، بكل مايكتنفه من اوهام واخطاء وخطابات سرية ومغشوشة، لان هذا التاريخ، خاصة القريب منه هو خلاصة لسرد طويل من الصراعات العميقة والتي خلقت لها قوى متخيلة، وبطولات متخيلة، وايديولوجيات متخيلة سرعان ماتحولت الى قوى ضاغطة ودامية ومرعبة في حياتنا، ربما هي التي انتجت هذا الاستبداد والرعب السياسي والخوف من الامكنة والعقائد الذي كتب عنه منيف وهرب منه الى اغترابات موته الوجودي. بعد مرور هذه السنوات على وفاة عبد الرحمن منيف، ثمة العديد من الاسئلة تبدو قريبة من هواجس مثقفيناالعرب، هواجس ترتبك باعترافها، هواجس تهرب الى المزيد من التوريات، فهل غاب حقا ذلك (الشرق المتوسط) بكل ما يعنيه من رعب وسجون وطغاة وبصاصين؟ وهل غابت مجسات ماتحمله قراءة ارض السواد من نبوءات لموت يسكن المكان والوجود، وما يمكن ان تشيء هذه الارض به من احتمال فجائعي؟ وهل مازلنا نقف عند عالم بلا خرائط تتوه فيه الكائنات والمدن والافكار، وتنكسرفيه لحظات العشق الغامرة، حيث ينكسر الجسد؟ وهل ثمة رغبة حقيقية لمواصلة سباق المسافات الطويلة، والجري خارج سياق الازمة التي اجتاحت كل شيء، الانسان والمكان واللغة والايديولوجيا؟ وهل ان مدن الملح تحولت الى مدننا الصالحة والاهلة والضاغطة بقهرياتها المباحة وجياعها الساخطون على الفقر والمقدس والسلطة، مدن صالحة قهريا للانسان الكائن،وليس الانسان التابع الذي يلتذ باية سلطة وولاية امر؟ هذه الاسئلة ظلت غائمة ازاء اخر اعماله التي تختصر هواجسه وقلقه وربما اسئلته، اذ سماها(الباب المفتوح) وكأنه يقول لنا اننا نقف بعد كل هذا الرعب والاغتراب والاخطاء والخيانات نقف عند باب مفتوح، لكنه مفتوح على ماذا!! وننتظر ماذا!! هذا هو السؤال الاكثر رعبا.. لااظن ان سرديات منيف التي لامست محنة الانسان(الشرق اوسطي) قد غادرت اسئلتها، ولا اظنها كذلك قد اجترحت لها سياقا قرائيا مجردا، له غواية ماهو مضاد لسحرالواقع، والتي لايمكن التعاطي معها الاّ في ضوء محددات تفترض وعيا استثنائيا لهذا السياق.. لاني ادرك تماما ان منيف كان اقرب الى الانثربولوجي منه الى الحكواتي، وهو اقرب الى الظاهراتي منه الى كاتب السيرة التاريخية، وهذا التوصيف يضعنا امام احتمال قراءته دائما عبر تأنيس نصوصه، وعبر مايجلو في ذاته العارفة، المصدومة من تجليات هي سر وعيه الشارد المتمرد والساخط والهارب من(ابوات) يعرف مرجعياتها جيدا. قراءة نصه الذي يسرد امامنا ثنائيات السلطة والمواطن المثقف، والحرية والرعب، الخوف والقوة، البداوة والحضارة وغيرها. فضلا عن ثنائيات تخصه، ثنائيات لاتواجه(ميتافيزيقيا) الكائن العربي المستلب والمرعوب، هذه الثنيات تخص كائنه الخارج عن دورة الرعب، عن دورة الخوف والهزيمة، هزيمته امام الجسد والايديولوجيا والسجان، وربما كان عبد الرحمن منيف من اكثر روائيينا توظيفا لهذه الثنائيات التي تخلو تماما من فكرة البطولة الشوهاء، لكنها بالمقابل تكشف رعب الوجع والخوف وخواء الانسان امام خديعته وخذلانه.. مع استعادة عبد الرحمن منيف، نستعيد رعب اسئلتنا الوجودية في المكان، وفي القسوة، اذ تحول المكان الى حاضن لعنف اخر ولاقنعة اخرى، والقسوة صارت ايديولجيا سوداء ولكائنات سود، واكثر تخيلا في اصطناع اقنعة اخرى تستعير رعبها من التاريخ والسلطة والايديولوجيا.
عبـد الرحمن منيـف.. التاريـخ الذي يشبـه شرق الـمـتـوسط
نشر في: 25 يناير, 2010: 06:26 م