هشام بن الشاوي الرباط يخصص د.عبدالفتاح كيليطو مقدمة كتابه"الكتابة والتناسخ" للحديث عن أهمية اسم المؤلف وارتباطه بالكتاب، وأيضا ما عرف في الشعرية العربية الكلاسيكية بالسرقات والانتحال، متناولا في بعض فصول الكتاب تناسخ المقطوعات الشعرية، لا سيما في الشعر الجاهلي،
وفي فصل آخر يصف الباحثُ الشاعرَ، الذي ينظم قصيدة واحدة يمدح بها كل الأمراء بالخيّاط المتنقل، وتلك القصيدة بـ"القصيدة متعددة الأزواج"، حيث يزوج الشاعر ابنته/قصيدته لأكثر من أمير، وهو يجوب أنحاء المعمورة، وبعد أن يأخذ مهرها يلوذ بالهرب بصحبتها، وهو ما يتعذر على الشاعر المقيم في البلاط ، الذي يتحتم عليه أن ينظم قصيدة جديدة في كل مناسبة، وفي فصل "الشعر والصيرفة" يشكك الدكتور كيليطو في أن تكون المعلقات قد نظمت في العصر الجاهلي، فضلا عن أهمية معرفة المؤلف عند تأويل القصيدة، لأنها تدرك انطلاقاً من المعرفة المسبقة عنه، وحين لا تكون تبقى مفترضة، وبالتالي يكون النص المنغلق بلا آفاق. من الفصول اللافتة التي خصصها الباحث للنثر العربي الكلاسيكي فصل "النوادر"، الذي يستهله بإشارة الجاحظ في كتابة "الحيوان" إلى أن الخنزير لم يخلق في اليوم السادس من الخلق شأن باقي الحيوان، بل لم يكن له أثر، ولم ير النور إلا بعد أن أذنب بعض الناس، فمسخهم الله خنازيراً عقابا لهم، ولو أن القبح " تجسد لما زاد على قبح الخنزير"، لكن كيليطو يرى أن الخنزير لم يكن بهذا القبح، ولم يعاقب بما يكفي، فهناك كائن يفوقه بشاعة؛ هذا الإنسان هو الجاحظ، الذي بلغ أعلى درجة للقبح، كما وصفه أحد النظّامين! نعلم أنه- ولأسباب دينية- لم يكن لوجوه المؤلفين العرب القدماء صورة، لهذا يصعب تمثل الصورة التي كان عليها الناس قديماً، ويحاول البعض اليوم رسم تلك الصورة انطلاقا من الأخبار القليلة التي تنقلها عنهم الكتب، لكنها تظل صورة تقريبية. إن قبح الجاحظ هو قبح الشيطان، وتصوير الشيطان هو في ذات الوقت تصوير للجاحظ. ووفق إحدى النوادر فإن امرأة أرادت نحت صورة الشيطان على حليها، وحين تعذر على الصائغ أن يجد نموذجاً يقلد، فخرجت المرأة إلى الطريق، ولما وقعت عيناها على الجاحظ أتت به إلى الصائغ قائلة :"مثل هذا"، ولم تكن تعرف حتى اسمه، وحين ستظهر حليها لرفيقاتها لن تنطق باسمه وإنما ستكتفي بأن تظهر صورة الشيطان، المنقولة عن كائن بشري يشبهه، ستذكر اسم الشيطان مبتسمة. وتحت عنوان " أسماء النسيب" وفي نفس الفصل، يذكر كيليطو أن الشاعر جميل خصص معظم شعره للتغني بامرأة واحدة هي بثينة، حتى دعي جميل بثينة، ويقال أنه لم يمتلك بثينة وإنما تملك اسمها.. اسم المرأة وليس المرأة. لقد كان اسمها موقوفاً عليه فإذا استعمله شاعر آخر فمن قبيل التطاول، ومن أراد أن ينسب أبياتاً إلى جميل لا بد وأن يذكر اسم بثينة، ولا يمكن للمتلقي أن يفطن إلى أنه بصدد انتحال. إن أسماء التأنيث لا تقترن بهذا الشاعر أو ذاك، فهي في المتناول، وهي المعين الذي ينهل منه الشاعر الاسم الذي يلائمه حسب مقتضيات الوزن أو القافية، متجنباً الأسماء ثقيلة اللفظ، وهكذا لا يسمح الشعر إلا بأسماء معدودة، أشهرها : ليلى، فاطمة، هند؛ أسماء " تحلو في الأفواه" بتعبير ابن رشيق، والشاعر لكي يحدث وقعاً في نفس المتلقي يحوّر اسم المرأة التي يتغنى بها، إذا لم يكن اسمها شاعرياً، ويصير الاسم الشخصي مجرد اسم عام، مجرد رمز لا يدل على امرأة بعينها وإنما على النسيب، وربما أتى بأسماء كثيرة من النساء في قصيدته تأكيدًا على تعلقه بالتراث الشعري، وهو ما قد يثير عجب من يعتقدون أن قصيدة الغزل تخاطب امرأة ولا تخاطب إلا امرأة بعينها، وسيتساءلون عما إذا كانت مختلف الأسماء الواردة في القصيدة ألقاباً لنفس المرأة، وما إذا لم يكن الشاعر وفياً في حبه، وهو ما ينم عن اعتقاد ساذج بأن قصيدة النسيب تعبر عن عواطف الشاعر؛ إن خلف المخاطبة الصريحة للقصيدة مخاطب آخر/ ضمني هو هاوي الشعر الذي غالباً ما يكون ناقدًا في نفس الوقت. ولأن الشاعر المتغزل يكون هو المتماوت، كما جرت العادة عند العرب بخلاف العجم، الذين يجعلونها الطالبة والراغبة، فالشاعر/الرجل يبادر بالطلب ويتكفل بأن ينسب إليها الكلام الذي يلائم وضعيتها كامرأة، ويكرر المساعي إغراءً لها، وتروي في النهاية قصيدة النسيب رغبة غير متبادلة، لكن عمر بن أبي ربيعة سيخل بهذه القاعدة، ويغير مواقع الأدوار، والنسيب لن يكون سوى ميدان تضليل مقنن، وتلك نتيجة لا محيد عنها للوفاء للتراث الشعري، ومجمل القول أن الشاعر عاشق لكل النساء اللواتي تغنى بهن من تقدموا عليه. يستهل عبد الفتاح كيليطو فصل " الجاحظ ومسألة التزييف" بالانطلاق من مسلّمة أن كثيرين وضعوا كتباً منحولة(نسبوها إلى مؤلفين سابقين)، وكان من الصعب كشفهم أو افتضاح أمرهم، ويعترف الجاحظ في إحدى رسائله بأنه وضع نصوصاً منحولة، حيث كان الكتاب يُتداول عبر راوية، وكان هذا الشخص ينسخه بإملاء من المؤلف الذي يجيز روايته، ولن يصبح المرء راوية ما لم يرتأ المؤلف أنه أهل لذلك، وكان عدد الرواة يتضاعف وهو شرف كان يتسابق عليه
صورة المؤلف القديم فـي الثقافة العربية الكلاسيكية
نشر في: 26 يناير, 2010: 06:06 م