محمود عبد الوهاب كيف تكون الذات نصاً ؟. يتماهى الكاتب، في تدوين سيرته الذاتية، مع"أناه"في علاقة متداخلة مع مكتوباته، ولو تخلّت هذه الذات عن هذا التداخل، فإنها ستفقد قدراً من صفاتها، ما يجعل من توظيف الذات للرمز والسرد حلاًًّ ممكناً لاسترداد ما ضاع منها،
وهذه خطوة أولى من ثلاث لاكتشاف الذات، في فلسفة بول ريكور، وهي لحظة تكون الذات فيها في مواجهة"أناها". قليل من أدبائنا مَنْ كتب سيرته الذاتية، وأغلب مَن كتب فيها، خارج الإبداع، عدد من رجال السياسة والاجتماع والصحافة ممن وجد في خبرته وسيرته ما تتوجب كتابته. تستهويني قراءة السيرة الذاتية،إنها لا تكتفي بحياة كاتبها، بل تتسع، لضرورات تتعلق بما يرويه، إلى طبيعة عصره وأساتذته ومجايليه ممن كان له تأثير في ثقافة تلك الحقبة،وبهذا تُطلعني هذه السيرة على مشهد واسع للعصر،ولا تقف عند حياة كاتبها وحده. يتجنّب كثير من الكتّاب تدوين سيرتهم الذاتية خشية أو تواضعاً أو عدم اكتراث،وغالباً ما يكون ذلك عند الكتّاب الذين يعيشون في بيئة منغلقة تتباين تقاليدها و"أحلامَ" الكــاتب و"ثقافته"، وبسبب هذه الرقابة الكابحة، يلجأ عــدد من الروائيين إلى اتخاذ"رواية السيرة"معبراً لتفريغ ما هو"محظور"في الشخصيات الروائية وفضائها، ما يضع المتلقي في حال من الالتباس ما بين"حقيقة"السيرة و"متخيَل"الرواية. وكان اندريه موروا يحوّل السيرة إلى رواية قبل أن يصبح كاتب سيرة جاداً، وقد أدرك،فيما بعد، ضرورة أن يُحدث توازناً بين حرية الروائي في التخيّل وبين حدود الحقيقة من السيرة، وقد نحا الروائي الكبير نجيب محفوظ في كتابة سيرته الذاتية نحو إدراجها في أشكال نصوص اتخذ لكل نص عنواناً خاصاً به، وأصدر كتابه بعنوان"أصداء السيرة الذاتية"يحمل عدد من نصوصه، عند التلقي، هذا الالتباس بين الحقيقة والتخيّل. وكان هنري جيمس، وهو مَنْ يخشى كتابة السيرة، يحذّر الفنانين بأن يُخلوا أدراج مناضدهم من محتوياتها ويطمسوا كلّ ما يتصل بحياتهم الخاصة، فإن لم يفعلوا ذلك، فقد يجد النقاد وعلماء النفس والثرثارون"بعض السنابل بعد الحصاد". وقد أقدم هنري جيمس بنفسه على إحراق مراسلاته لكي لا يترك وثيقة خاصة أو شخصية تفيد الناشر أو الناقد، وفي الحوار الذي أجراه"دي جيوفاني"مع بورخس في أثناء ترجمة أعماله إلى الانكليزية، لم يتطرق بورخس إلى كثير من جوانب حياته مثل عزوفه عن الزواج حتى تجاوز العقد السادس من عمره، ثم بعد زواجه مرتين، لم يذكر اسم زوجتيه، ولا علاقتــــه العاطفية، وهو في السابعة عشرة من عمره، بفتاة أسمها"استيلا كانتو"، وهكذا حجب بورخس الكاتب أحداثاً كثيرةً من حياته، يُعدّها أسراراً خاصة يحجم عن كتابتها، تاركاً ما يمكن أن يقوله الآخرون عنه حدساً أو تأويلاً. غالباً ما تستغرق السيرة الذاتية لدى كتابنا العرب حياتهم، الولادة والطفولة والمراهقة.. في حين يلتفت معظم كتاب الغرب إلى سـنوات نضجهم وتحوّلاتهم الفكرية، وهو الأمر المهم في سيرة الكاتب التي جعلت منه مفكراً أو مبدعاً، ومثل هذا ما فعله بول ريكور حينما وضع عنواناً لبحثه الصادر باللغة الانكليزية أسماه"السيرة الذاتية الفكرية"المنشور في السلسلة المسماة"مكتبة الفلاسفة الأحياء"، ومع أن بورخس في سيرته الذاتية أخفى بعضاً من أسرار حياته، فإنه استفاض، في هذه السيرة، عند عرض بعض أفكاره ووجهات نظره في الكتابة، وهو الأمر المهم الذي أشرنا إليه، فهو يرى مثلاً أن النصوص الطويلة تُفقد الشكل تماسكه، وأنه لم يكمل يوماً قراءة رواية إلاّ بدافع الواجب، وأنه بعد إصابته بالعمى لجأ إلى الشعر المقفّى لأنه"محمول"يمكن للمرء أن ينظم ويعيد صياغة"سوناتا"وهو يسافر في مترو الأنفاق، بحــكم القافية والعروض التي لها ميزة التذكر بسرعة، ولعل من الطريف المؤلم أن يشير بورخس، في نهاية سيرته، إلى انتشار شهرته بقوله إن الشهرة قد جاءته كالعمى تدريجياً، ولم يكن ينتظرها أبداً. السيرة الذاتية إذن ملفوظ الذات و"أناها"، وقد وصفها ليتون ستراشي بأنها أدقّ وأرقّ فنون الكتابة. وهو رأي شخصي محض يمثّل اعتزاراً بهذا النوع من الكتابة.
اوراق :الذات نصاً
نشر في: 26 يناير, 2010: 06:07 م