فريدة النقاش تلقت المكتبة العربية في عصر الرواية بدءاً من منتصف القرن الماضي سيلا من الأعمال المهمة - وإن تفاوتت في مستوياتها الفنية وقدرات كتابها وطاقاتهم - وتناولت بعضها مسيرة ثورة يوليو 1952 سواء كانت الثورة خلفية لها أو هي موضوعها الرئيسي.
وساهم كبار الكتاب من نجيب محفوظ ليوسف إدريس ومن فتحي غانم لصنع الله إبراهيم وغيرهم في إغناء المكتبة العربية بأعمال مرموقة أضاءت هذه الثورة من جوانب شتى، بل إن بعضها جرى اعتباره بمثابة نبوءات للمآل المأساوي للثورة الذي تجسد في هزيمة 1967.. فعلت ذلك روايات نجيب محفوظ، وفعلته درة أعمال فتحي غانم (زينب والعرش) وفعلته (تلك الرائحة) أولى روايات صنع الله إبراهيم، ثم كانت (الزيني بركات) رواية جمال الغيطاني الرئيسية التي فضحت ممارسات الدولة البوليسية عائدة للتاريخ لتسقط أحداثه علي الحاضر.وأخيرا وبعد أن مرت الأعوام، وانقلب النظام الحاكم علي منطلقات الثورة مع بدء عصر السادات، تلك الثورة التي جرى تقييمها علميا من كل الزوايا بما شكل تراثا هائلا يكاد أن يصبح عبئا علي كل من يقترب فنيا أو تاريخيا منها مجددا خاصة أن سلسلة بلا حصر من المذكرات قد صدرت لمن شاركوا في الثورة أو كانوا شهودا عليها.. أقول أخيرا صدرت رواية جديدة هي الأولي لصاحبها الهاوي (عمرو كمال حمودة) الباحث في علوم الطاقة والتي كتبها مع ذلك بروح الاحتراف وهي رواية (فيوليت والبكباشي) لتضاف إلى هذا السجل الحافل من روايات يوليو.تبدأ الرواية بفعل انتهى (من تناول فنجان القهوة).. فهذا الفعل في مسار الرواية هو إشارة لا فحسب لمآل يوليو بكامله وإنما أيضا لما يشابه النهاية لبطله الذي شارك في الثورة كضابط حر وها هو الآن في مشهد الافتتاح يلاحق رشوة صغيرة قرر النظام الذي انقض على يوليو أن يقدمها لكل أعضاء الضباط الأحرار (إذ قدم أحد أفراد الحاشية الجديدة اقتراحا بمنح كل أعضاء تنظيم الضباط الأحرار معاش وزير.. وشراء سكوتهم مطلوب حتى ينصرفوا عن غواية الحاضر بضمان المستقبل).وفي هذه الجملة الأخيرة تفاجئنا تلك الخاصية المميزة لكثافة اللغة وجماليتها المركزة لدي الكاتب، وكما قال تشيكوف فإن الاقتصاد هو شقيق الموهبة.كلفت قيادة الثورة (يوسف عبدالرحمن) بتأجير شقة يجري فيها تخزين أسلحة وأموال لتأمين الثورة وفيها كان (ينام جيدا شاعرا بالسكينة) وعبر شرفتها يتعرف علي (فيوليت) الفاتنة فلسطينية الأصل فنجد أنفسنا أمام وجه آخر لفلسطين التي كان البطل قد حارب فيها ضمن كتائب الجيش المصري، حين التقى (البكباشي) (فيوليت) كان يعيش زواجا تقليديا باردا، مع زوجة مطيعة لا صوت لها ولا رأي فغمرته المرأة الجديدة بالحب والبهجة هي المتزوجة بدورها زواجا تقليديا لا روح فيه.وتبدأ من هنا حكايات الفساد الصغير الذي ظل يستفحل إلي أن وقعت هزيمة يونية المدوية، وصولا إلي استخدام آليات إسكات الأصوات التي يمكن أن تنتقد سياسات النظام في ظل السادات وعلي مدار هذه السنين كانت الأيدي الخشنة قد أصبحت ناعمة جدا واعتادت علي أن تمتد لما ليس لها، بل إننا نعرف لأول مرة عنصرا كان خافيا حول الصراع على الديمقراطية عام 1954، إذ تساءل يوسف حول المطالبة بعودة الجيش إلي ثكناته بعد أن كان هو ورفاقه قد ذاقوا حلاوة الانتقال الطبقي وأكل الطباخ الذي ورثه من سراي عابدين نسيب العز والسلطة وتتوزع كل شوية ما بين وادي حوف والهايكستب والسلوم والعريش؟.. كذلك تكشف الرواية عن بذرة ذلك الداء الخبيث التي زرعتها الدولة العسكرية البوليسية في نفوس المصريين.. وهو الخوف من السلطة حتي تلك التي انحازت لهم موضوعيا.(حد كان يقدر يعمل قانون الإصلاح الزراعي، ويحدد الملكية ويوزع الأرض على الفلاحين إلا الجيش؟ إلا القوة والخوف من الاعتقال والرصاص.. كانت الديمقراطية هاتنصف الفلاح؟) كذلك هناك تصوير فني للصراع الخفي الذي دار في ذلك الزمن بين أهل الثقة وأهل الخبرة.. أي بين الضابط والأستاذ الجامعي الذي شغل منصب سكرتير عام رياسة مجلس الوزراء.وأخذ الفساد الأكبر يدب لا في الحياة الخاصة فقط حيث انخرطت زوجته (سناء) في لعب القمار وتحول البعض من الضباط الأحرار إلي تجار، وتهاون البطل مع مبادئه (ورغم حبه لجمال عبدالناصر فقد شعر بالندم لأنه لم يلتحق بالعمل في معية المشير، فهو بحبوح وكل رجاله اغتنوا من العمل معه، حتي الصولات في مكتبه تاجروا في أذونات الحديد والأسمنت، ومن جاور السعيد يسعد).كذلك تحول زوج عشيقته إلي قواد بعد أن قام رجال الأمن الأشداء باستئصال ذكورته كعلامة علي إهدار الكرامة البشرية عبر التعذيب في ظل يوليو وقبل الزوج أن يتغاضى عن علاقتها بالضابط مقابل أجر شهري.. وفي نهاية الرواية تتحول علاقته (بفيوليت) إلي علاقة شرعية إذ يتزوجها علي سنة الله ورسوله وكأنما تقول لنا الرواية، أن كل أشكال التحلل والفساد باتت مقننة وعلنية وهو الحال الذي نعيشه الآن وإن أعطت الرواية للبطل لقب البكباشي وهو رتبة قديمة في الجيش بدلا من العقيد كما هي الآن.في سرد بسيط وجذاب من الميلاد للموت ينجح (عمرو حمودة) في إضاءة وجوه أخرى ليوليو التي كانت بداية عصر تحرر ثم انهارت مع قليل من الأخطاء اللغوية وأقل من مناطق الترهل السردي
فيوليت والبكباشي
نشر في: 26 يناير, 2010: 06:24 م