عواد ناصرلم تكن مقاربة التجربة البياتية ممكنة، بمقاييس كتابة اليوم: تقريظا أو هجاء، تجاهلا أو احتفاء، ونحن نستذكره في ذكرى رحيله، لكنها محاولة لفتح دفتر التحديث الشعري ودور الشاعر في لحظة تاريخية غائمة أصبح فيها الشعر والشاعر مثار جدل ووجهات نظر.
.. ولأن البياتي، كأي شاعر مهم، لابد من أن يكون شخصية مركبة، غير مسطحة أو وحيدة الجانب، فاللعب معه، حيا أو ميتا، لعب بالنار.علي ديدن الشعراء الكبار، الذين تكرسوا أفقيا وعموديا، من الكتاب المدرسي وانتهاء بدراسات المتخصصين والأكاديميين (بالمناسبة، حظي البياتي بأكبر عدد من الدراسات الجامعية داخل الوطن العربي وخارجه، مقارنة بأقرانه من مختلف الأجيال).ومن الصعب، كما يؤكد هو، أن يندرج في مدرسة شعرية أو اتجاه أدبي أو نمط كتابي، فهو اليساري الصوفي والوطني ساكن العالم والقومي التحرري، وفي قصيدته، فنيا، تجد السهل الممتنع والخيالي والواقعي والشرقي والإسلامي الحضاري والوجودي الباحث عن معني للإنسان في الزمان والمكان أو خارجهما كما يدعي الشعراء. عبد الوهاب البياتي واحد من أولئك الشعراء الكبار الذين تأسسوا في ذاكرتنا النقدية على أنهم رواد الشعر الحديث. مع بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وبلند الحيدري كان البياتي يلتحف أوراقه ويفترش جلده وهو يسري (عبر بوابات العالم السبع) كاتبا عشقه وشاهرا حبه للناس وما يدخل في صلب مقتضيات العيش اليومي: معضلة الحرية، ولكن على ضوء ما تتيحه له من التحقق الأدبي والانتشار. صحيح أن هؤلاء الرواد ولدوا في العام نفسه (1926) عدا الملائكة، لكنهم اشتغلوا بانفرادة الشاعر بكل ما تحمله هذه الانفرادة من (أنا) واستقطابية وضيق بالزميل، أو رفيق الدرب الشعري، فمن النادر، أو المستحيل، أن نكون رأينا مرة مشهدا أو أمسية أو ندوة أو جلسة ضمتهم معا!rnلقاء السياب بالبياتي يؤكد قولي هذا ما ذكره البياتي نفسه في مذكراته التي نشرها على حلقات في صحيفة عربية إذ نراه يقول: "... وعندما كنت أتمشى في باحتها (دار المعلمين العالية) التقيت بالشاعر بدر شاكر السياب وجها لوجه، فسلم علي واستوقفني قائلا: إنه قد بلغني أنك تكتب الشعر، ولهذا فأنا أود التعرف عليك، فدعوته الى قدح من الشاي في حانوت الكلية وجلسنا طوال ساعات الدروس ولم يذهب هو أو أذهب أنا إلى الدرس، وتحدثنا طويلا، وكان قد كتب قصيدة جديدة في الليلة السابقة، فقرأها علي وأعجبتني، وعندما أظهرت إعجابي بها فرح فرحا شديدا، وخاصة عندما تحدثت عنها بالتفصيل، وأدرك أني لا أجامله بل أنني كنت أتحدث بصدق إليه عن قصيدته" ثم يقول: "ولم أعد أراه في بغداد إلا لماما، وفي مناسبات قليلة في بغداد".كتب كل منهم قصيدته وخاض مشروعه الشعري (لحسابه الخاص) وكأن القصيدة، رغم أنها نتاج فردي بامتياز، لا تحتمل الرفقة أو التفاهم أو حتى الحوار الذي ربما أغناهم أكثر وأغنانا من بعدهم، نحن الذين تلقفنا كلماتهم كالإيقونات لتحمينا عبر (سفر الفقر والثورة) سابقا ولاحقا.بينما غاب الوجه الآخر للفردانية باعتبارها عماد العمل الفني واندرجت، للأسف، ضمن متطلبات الشأن العام، والعناية بالجموع وتصدر هتافاتها وأصبح الفرق، طيلة تاريخنا الحديث، تاريخ الثورات والانقلابات العسكرية، فرقا يكاد يكون شكليا بين اللافتة والقصيدة.كما أن البياتي منح من الفرص للإعلان عن تجربته ما لم يمنح شاعر آخر، هذا عدا مقدرته الفائقة في الحديث عن نفسه وتحجيم الآخرين.قرأت مرة مقابلة أجريت مع الراحل في عمان بشأن الأسبق في حركة التجديد ما يلي:" استعنت بنصوص كتبها نقاد عرب وعراقيون كبار وبينهم شعراء زاملوا السياب وكانوا من اخلص اصدقائه، وهذه الشهادات استعنت بها حتى لا ادعي شيئا من هذا القبيل. فوضعتها بمثابة الفصل في هذه المسألة. السياب كان يملأ الساحة الشعرية وخاصة على المستوى السياسي فعندما كنت اكتب الشعر لم اكن انتمي لأي تيار سياسي، على الاطلاق وكنت مخلصا للشعر فقط.وعندما بدأت اضواء المسرح السياسي تتفتح، بدأت امور كثيرة واذكر ان ديواني (اباريق مهشمة)، والذي كتبت قصائده في سنة 1950، احدث ما يشبه حريقا في غابة ميتة، فأعتبره النقاد اول ديوان حداثي في الشعر العربي. ونشر ذلك في (مجلة الاقلام). بعض النقاد الكبار مثل نهاد التكرلي، واحسان عباس ومحمد البطراوي وسواهم قد اكدوا ذلك وهذه المسألة لا تشكل لي هاجسا، اذ ان مسيرتي الشعرية لم تبدأ وتتوقف في تلك السنوات بل استمرت حتي ان الاهتمام بشعري ظل يتزايد من الخمسينيات الى الستينيات وحتى الآن، حيث ان اسمي وشعري يملآن الساحة الشعرية في العالم العربي، وان الاهتمام بشعري يزداد يوما بعد يوم وهذا ما يظهر في الدراسات الاكاديمية بجامعات العالم العربي وجامعات الدول الغربية".rnهمس القصيدة الخافتأشبعت قصائد الرواد بالنبرة الثورية العالية، فكانت منطلقهم جميعا، حتي لو أعادوا انتاجها لاحقا على انفراد، واستمرت معهم حتى الرحيل، بل أن تلك النبرة هي السبب الرئيس الذي شكل التباس الشاعر بالسياسة وهو التباس معقد ومزرٍ، بعد أن مغريا، وكأن (الثورية) هي الرافعة الوحيدة للقصيدة وشاعرها، ومن الجانب المقابل كانت أحزابنا بجملتها
شاعر كابد محنته وظل مخلصاً للقصيدة وحدها
نشر في: 27 يناير, 2010: 05:16 م