TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > من البرج العاجي :رباعية صينية: سقوط بغداد

من البرج العاجي :رباعية صينية: سقوط بغداد

نشر في: 31 يناير, 2010: 05:45 م

فوزي كريمالموسيقيون الكلاسيكيون، من مؤلفين وعازفين ومغنين، ذوو الأصول الشرقية، صينية ويابانية وكورية...، ليسوا وافدين على الغرب جميعاً. فكثير منهم نشأوا ناشطين في بلدانهم. وظاهرتهم مُدهشة، مقارنةً بالناشطين العرب، والمسلمين في هذا الحقل. هذه المقالة غير معنية بالمقارنة، فأمرها يحتاج إلى متسع، عرضت له في كتابيَّ "الفضائل الموسيقية"(دار المدى2002)،
و"صحبة الآلهة" الذي صدر عن المدى هذه الأيام. ولكنها خاطرة عبرت بعد انتهائي من الإصغاء لإصدارين موسيقيين عن دار ناكسوس. أحدهما للصيني جي غان رو (مواليد 1954). والثاني للكوري جياجون رايو (مواليد 1970). وهما علَمان اليوم، يدخلان قائمةً غير منتهية للموسيقيين الكلاسيكيين،والتي أصبحت بفضلهم تنتسب للعالم، وللإنسان حيث يكون. المثير في الإصدارين أن عملاً فيهما تحت عنوان "سقوط بغداد". رباعية وترية وضعها غان رو، المقيم في أمريكا، في عام 2007. وكان استجابةً لتأثيرين موسيقيين: الأول "رباعية وترية" وُضعت عام 1970 ضد الحرب الكورية. والثاني "محاولة لتسجيل أفكاري الموسيقية التي استثيرت بفعل الحرب في العراق".، على حد تعبير المؤلف. حركات الرباعية الثلاث مشدودة إلى أرض ساخنة. تستشعر ذلك من عناوينها. الحركة الأولى: هاوية (أو جهنم). وتبدأ بصفير وتري يشبه صرخة حادة، تنبعث بفعل ضغط على الأوتار فيما وراء الجسر الخشبي، أو القنطرة، للآلات الوترية المشاركة. ولمزيد من التفصيل فإن الحركة ذاتها تتوزع على مقاطع بمسميات: صرخة، جحيم حي، مارش بربري، هاوية، مرثاة. في الحركة الثانية يُدخلنا المؤلف في رحلة حج، ثم في سوق، ثم يُسمعنا طبول وصول الخليفة، ثم يرفعنا إلى موسيقى سماوية. بعض التسميات قد تذكرنا بعمل الروسي كورساكوف: "شهرزاد". ولكن الموسيقى هنا بعيدة تماماً. في تغيرات ربع التون، نسمع أصداء موسيقى عربية، ثم أصداء ألحان صينية. ثم تنقلب المشاهد إلى الروح الندّاب في الحركة الثالثة: خراب، بكاء، أنين وعويل. على طبقات آلة التشلو الخفيضة. كنتُ وأنا أصغي أستعيد في مخيلتي الموسيقية، لا مخيلتي التصويرية، ما كنت أشاهده على شاشة التلفزيون في أتون أحداث 2003، بالأحمر القاني، والأسود الفاحم: النيران والدخان. وملامح مدينتي في داخلهما، تتفحّم منطويةً على نفسها، مثل طفلة. إن الاستجابة القلبية للموسيقي الصيني، الذي يعيش في أمريكا، تنطوى على أسىً شخصي بالتأكيد. فهو الآخر تعرض إلى هاوية شبيهة بالهاوية التي تعرضت لها بغداد. ففي مرحلة الصبا، التي كان يدرس فيها العزف على آلة الفَيولين، في مدينته شنغهاي، حلّت لعنة الثورة الثقافية "الماوية". وانتُزع من سحر الآلة المريبة، وأرسل إلى معسكرات التأديب، عقاباً. ولكنه وجد هناك، في عتمة الليل، سبيلاً إلى ركن سري يجتمع فيه محبو الموسيقى الكلاسيكية، ويمارسون الطقس السحري. وفي العلن كان قد أُشرك في فرقة موسيقية تعزف أغنيات ثورية للعمال. تواصل هذا حتى انتهاء الثورة الثقافية 1974، وأُعيد فتح "معهد شنغهاي الموسيقي"، ليلتحق به، ومن بعده ليسافر إلى أمريكا لمواصلة الدراسة. ولكن موهبته التأليفية سبقت الطالب فيه إلى الشهرة. الموسيقي الآخر، الكوري رايو، أوفر خطا. فهو ينتسب لجيل متأخر لم يشهد حرائق الثورة، أو حرائق الحرب. فتوفر له أن يدرس الموسيقى في بلده. ولكن الفنان فيه لا يغفل أن ما ينعم فيه اليوم هو ثمار الجهد الكبير الذي قدمته الأجيال السابقة. الجيل الذي ذهب ضحية الحرب، والجيل الذي عرف كيف ينتزع من التاريخ مفتاح مستقبله، ويوصل كوريا الجنوبية إلى ما تنعم فيه اليوم من حياة. ولأولئك الذين فقدوا أرواحهم في الحرب (50-1953) وضع رايو عمله الموسيقي الرائع "سيمفونيا القداس الجنائزي". وهذا الفن، كما نتبين من العنوان، يجمع بين العمل السيمفوني والكورال. والهاجس فيه رثائي. صوت السوبرانو المنفرد يتساوق مع صوت الكورس، وصوت الآلات، دون انقطاع، على امتداد 42 دقيقة، بالغة الحرارة. ولعل الرائع في العملين أنهما تعزيز لحركة الموسيقى الكلاسيكية في السنوات الأخيرة باتجاه الجذور، ومواصلة مجرى الموروث، الذي يربط الموسيقى بالجمهور، والموسيقي بهم وبنفسه، بصورة صحية متعافية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram