محمد خضير أتتبع هنا رجلاً ضائعاً في الزحام، رجلاً يحشو جيوبه بأصناف من بطاقات الهوية والأوراق الثبوتية لكيلا تضيع اسميته الشخصية في خضم المؤسسة الاجتماعية الكبرى, العائمة على موجات متتابعة من المهاجرين العائدين والسجناء المحررين والطلاب العاطلين والمتظاهرين الغاضبين، أسراب بلا سحنات فارقة تختلط اختلاط السمك الصغير على قطعة خبز طافية، أو الدود حول جثة مجهولة.
كان هذا الرجل يضبر في كل يوم ورقة تعريف جديدة في أرشيف مؤسسته المحمولة في جيوبه، فاتورة ماء أو كهرباء، وصل تأمينات، تعاويذ وحروز، يتنقل بها بين الأمواج البشرية المتدافعة، ويقترب من نقاط التفتيش والحراسة، ويحتكّ برجال الأمن والشرطة، ويفتعل أحاديث ويخوض جدالاً في سيارات الأجرة والساحات العامة، إلا أنه لم يُسأل يوماً عن إثبات هويته، فكان حراً ضائعاً، بل لا أمل في الاعتراف به شخصاً ذا اسم ومحل ولادة وفصيلة دم، مثل شخصيةٍ روائية لا تزيدها الأوصاف والمستمسكات إلا نأياً عن الحضور والتجسد. تكرر ظهور هذا الشخص في أحلامي، واستحضرتُ كيانيته الضائعة في الزحام عشرات المرات، حتى قابلته في منتصف ليلة صيف، عند محطة مدينة السماوة، حيث يلتقي قطاران انطلقا متعاكسين من البصرة وبغداد عند منتصف الليل، فيستبدلان قاطرتيهما البخاريتين ثم يستأنفان المسير في اتجاهيهما المرسومين. تجذب غريزةُ اللقاء الليلي المعتاد الوجوه إلى بناء المحطة الصحراوية، فتختلط وتتجاذب أطراف الأحاديث الموصولة مئات الكيلومترات. وحيثما تتشابه محطات الليل في كل أنحاء العالم بشحوب أضوائها، وتباطؤ ساعاتها، وتسلط هواجس الغربة والانفصال على مسافريها، توقظ محطةُ السماوة رغبة اللقاء بمسافرين تأخر وصولهم إلى نقطة استبدال الأحلام . بُنيت المحطة في الكيلومتر الذي يتوسط طرق الخوف والضياع، وآثار الأقدام المصفَّدة بالحديد، وخشخشة الخلاخل في رايات العشائر الثائرة على الاستعمار البريطاني في عشرينيات القرن الماضي، ومن طوارها ينطلق سهم إلى قلب الصحراء المنخفضة التي ابتلعت أشهر سجن في العراق، سجن (نقرة السلمان) . في كل ليلة كانت القاطرة تسحب عربات سجناء الحلم العراقي وتتوقف بهم ساعات في استراحة منتصف الليل، قبل أن يأذن لها الناظر المسيطر بمواصلة السير على السكة التاريخية المستقيمة. أما في هذه الليلة من حلم المحطة السماوي، فقد شاهد ناظر المحطة أفراداً قلائل يهبطون من العربات إلى فناء المحطة الخربة. اقتربتُ من الناظر العجوز وسألته عن مدة رقود قطاري الصاعد في المحطة. أجاب الناظر بأن وقوف القطار قد يطول مدة ساعة أو قد يرقد في مكانه بالمحطة دهراً بطوله. كان جواب الناظر الغامض مشجعاً لي لأتبع حلمي المجذوب إلى السماوة بقوة لا تُلجم. أخذتُ حقيبتي وتركت المحطة، ووجدت صفاً من سيارات النقل بانتظار المسافرين القلائل. ركبتُ في سيارة من نوع GMC هيكلها خشبي طويل، أخذ مصباحاها الأماميان يشقان لها طريقاً ضيقاً في الرمال المترامية على الجانبين. كان الوصول إلى جسر السماوة المقوس ميسوراً، وحالما ألقتني السيارة سرتُ مصعداً على جانب القوس الواسع الذي يربط صوبي السماوة القديم والجديد. استندتُ إلى حاجز الجسر في النقطة التي اعتقدتُ إنها منتصف المسافة بين طرفيه، وانتظرتُ شخصاً يعبر من الطرف الآخر ليتوقف إلى جانبي ويعطيني كلمة السر التي سأواصل بها مهمتي في حلمي (ما هذه المهمة ؟). انتظرتُ عبثاً، وأحسستُ أن الضياع شعور لا يمكننا تفسيره، وأننا نسعى من أجل مهمات خادعة بلا أسماء وهويات ومواعيد، وأن حياتنا حلم غير مُشخَّص ومؤقَّت حسبما نشاء. انفتلتُ عائداً كي أدرك قطاري قبل مغادرته المحطة، وبحثتُ في ظلام الشارع المتصل بقوس الجسر عن سيارة تعيدني إلى قطاري. وجدتُ هيكلاً محطماً لسيارة متوقفة في ركن الشارع المضاء بمصباح عليل النور، كان سائقها يرقد على نوابض المقعد الخلفي المجرد من حشيته. كان السائق أشعث الشعر، طالعني بضحكة عرّت أسنانه الكبيرة. رفض السائق المخبول طلبي ونهرني كما ينهر كلباً اقتحم سكنه وقطع عليه راحته.انصرفتُ إلى هيكل ثان، خال من المقاعد أيضاً رضي سائقه أن يقلني إلى المحطة، وقال إنه متوقف من أجل أمثالي من المساجين الهاربين، وإنه سينطلق بي مسرعاً مثل قذيفة, لكنه تركني عند ضريح أحد أولياء الصحراء وفرّ هارباً، بعد أن أوهمني أنه يبغي شراء التبغ من سادن الضريح. تركني مع هيكل سيارته الأجرد واختفى وراء الضريح الذي ترفرف على قبته راية سوداء مثلثة. أخذتُ حقيبتي وسرت باتجاه ما ظننته أنوار المحطة التي كانت تلوح وراء تل، مخلفاً ورائي الهيكل الأسود جاثماً كحيوان خرافي. تكشّف نور الصباح، ووجدت نفسي في طوار المحطة المهجورة. سألتُ الناظر العجوز الذي أقبل نحوي مثل حارس أبدي على حدود الصحراء عن وقت مغادرة قطار الليلة البارحة، فأنكر مرور قطار بهذه المحطة منذ أعوام (أنت مشتبه يا أخي. قل لي من أين أقبلت ؟). امتدّ قضيبا السكة أمام ناظري كما يمتد ضلعان حديديان في أحشـاء الحلم المشبوه، حلم المسافر المنقطع في صحراء الضياع، وحلم الناظر بقطار يمرّ بمحطته المهجورة.
خارج العاصمة: ضياع فـي السماوة
نشر في: 1 فبراير, 2010: 05:41 م