اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > المدى الثقافي > هنري بوشو فـي كتابه الجديد:الـشـارع الـبـعـيـد عـن مركـز الـمـديـنــة

هنري بوشو فـي كتابه الجديد:الـشـارع الـبـعـيـد عـن مركـز الـمـديـنــة

نشر في: 8 فبراير, 2010: 05:30 م

إيمان قاسمذيبان أربعون عاماً تفصل بين لحظتين: الأولى سرير الموت لفتاة مصابة بالسرطان، والثاني زمن حرب طاحنة سلبت الصديق المفضل. مع إنه في خريف العمر إلا إنه لا يزال متألقاً كما كان، إنه الكاتب البلجيكي هنري بوشو الذي بلغ العام الماضي الخامس والتسعين من العمر. وبالرغم من عدم قدرته على الكتابة سوى ساعتين في اليوم وبالرغم من تقلص عدد المفردات التي بجعبته –بحكم النسيان- استمر هذا الكاتب في عطائه،
ليتوجه برواية (الشارع البعيد عن مركز المدينة)... أو كما يصفها دائماً بالسعادة المجروحة. تدور أحداث هذه الرواية في ضواحي باريس حيث أعتاد الراوي على اجتياز شارعٍ ناءٍ ليزور زوجة أبنه المخلصة والمتعلق بها كثيراً (بولي) كونها ترقد في إحدى المستشفيات المتخصصة بعلاج مرض السرطان. وفي هذا الطريق المزدحم، الذي ضم باريس بحنان، تخيل الراوي أبواب المباني وقد استطالت أسمائها شبيهة باللآليء التي تنتظم في مسبحة واحدة. أبواب وقف على عتباتها أشخاص عديدون على غرار ملايين الأقدار التي تراصفت على امتداد (أسوار مدينة بابل الأسمنتية المجردة من الجنائن المعلقة)، وقد يتقدم الراوي في هذا الشارع مدفوعا بتدفق الناس ومكبوح بالزحامات التي جسدت هنا رمز الحياة الجديدة بمسافاتها المتقطعة وخطوطها المنكسرة. أيقظت انتكاسة بولي وعودة المرض إليها، مأساة أخرى في ذاكرة الراوي الذي سرعان ما عاد بالزمن أربعين عاماً ليجد نفسه وسط حرب هوجاء. حيث يقف هناك لوحده حائراً متسائلاً عن مصير(ستيفان) صديقه الأثير والأمين الذي علمه وبشيء من الحذر والدقة رياضة التسلق، ومرّسه على مواجهة الخوف وهزيمته والسيطرة على الذات. ترى لِمَ وجدت جثته راقدة في قعر المستنقع؟ بدأ كل شيء مع هؤلاء العمال البسطاء الذين رموا، وبغية إعلان تمردهم، المسامير الكبيرة على الجنود الألمان بعد خروج زوجاتهم من البيت، وكان هؤلاء العمال على يقين بأنهم يخاطرون بحياتهم بهذا العمل، ومع ذلك كانوا فرحين بالقليل الذي قدموه. ولحظة انهمار الرصاص عليهم كونوا سوراً من أجسادهم التي أطبقت صرخة مدوية جذبت انتباه الرأي العام إليهم ومنعت الألمان من إلحاق الأذى بعوائلهم. بحث الراوي طويلاً بين أوراق هؤلاء العمال، لكنه لم يجد أسم صديقه بينهم. وتوصل أخيراً إلى قراءة مذكرات رجل يدعى (ظل) وقد كان ضابط كبير في القوات النازية. وهنا أخذت الرواية محوراً آخر أكثر تشويقاً سيما بعد أن نجح هذا الضابط في قهر وإذلال أبيه، ومنذ ذلك الحين، لم يعد لديه أب ولا أقارب ولا أي صورة من صور التآلف مع المجتمع، بل تحول إلى وحش كاسر لا يعرف سوى الأجرام ولا يمارس سوى الرذائل. ومع مرور الأيام، وفي إحدى صباحات الحرب المكفهرة، أصبح الظل وجهاً لوجه مع ستيفان، تجمعهما غربة المكان والزمان لأن الاثنان آثرا المغادرة إلى مكان بعيد جداً وبهدف مختلف. فقد قصد الأول الثقل، أي إنه أختار الحياة المعقدة والقاسية، في حين توجه الثاني نحو الخفة وهي السعادة المجروحة على أيدي الآخرين. ثم يتلاقى الاتجاهان عندما يمسك الظل باستيفان دون أن يجد تهمة ملموسة ضده، وقد أعترف ستيفان بأنه مقاوم مستقل ولا يملك شيئاً ليدلي به. ومع ذلك يفكر الضابط النازي في أن يلقي القبض عليه بتهمة ملفقة ويضعه تحت رجمته، وربما يجعله وسيلة للفرار إذا ساءت الأمور. ولم تكن الصحبة الطويلة بلا نتائج، فقد أثار ستيفان المبادئ الأخلاقية في هذا الرجل المزهو بنفسه والفخور برتبته والمعروف بصلابته وسطوته، جاعلاً منه شخصاً يشعر بمرارة العار لما اقترفته يداه وبثقل الجريمة التي سيرتكبها عما قريب بحق شخص بريء، وتضاعفت وطأة هذه الأحاسيس عندما ألقى ستيفان الذي يخاف الماء كثيراً، بنفسه إلى المستنقع كي لا يتمكن منه الضابط، وليؤكد سمو أخلاقه وتفوقه على المحتل. إذاً، لا يوجد ما بين المستنقع والمستشفى سوى خطوة واحدة، بالرغم من تباعد السنين: فها هو الراوي ينهض مجدداً عن كرسيه المقارب لسرير بولي ليقف باستقامة بعد معاناة زحام الطريق. اكتست كل شخصية في هذه الرواية (من الأم، الزوج، الفتاة) غطاءً من الزهد والقناعة وحقق الأسلوب مراده بخفة المفردات وسلاسة الجمل. وهنا تمتزج التفاصيل (وعلى غرار روايات هنري بوشو) الأكثر واقعية للحياة اليومية بالميثولوجيا، إذ ينتقل القارئ تلقائياً من لحظة اعتيادية (ومنها بحث الراوي عن حمامات المستشفى) إلى مشهد من التراجيديا الإغريقية. وقد نتساءل عن مغزى تسمية الضابط بالظل في الوقت الذي لا يرى فيه الآخرون ظلاً ولا حتى طيفاً. وبهذا الخصوص أكد بوشو إنه لا يختار على الإطلاق أسماء شخصياته بل هي التي تفرض الاسم المناسب عليه. فالظل لا ينبغي أن يسمى باسم آخر وكذلك ستيفان. بعد أن نالت هذه الرواية نجاحاً كبيراً، برز أسم هنري بوشو، الرجل الهزيل والضعيف، تبدو عليه علامات التعب والكبر، يتكأ باستقامة على عصاه وكأنه يحمل الخمسة والتسعون عاماً على قدمين من الكريستال. يدور في خلد من يراه سؤال واحد: أنى لهذا المؤلف، مع هاتين اليدين الشاحبتين اللتين لا تنبضان بالدم والمرتجفتين، أن تكتب عملاً مميزاً كهذا؟ ولد هنري بوشو في بلجيكا حيث أمضى طفولته وصباه في بروكسل، ثم درس القانون في لوفان وتعلم القليل من مبادئ الصحافة. جُند إلى الحرب في عام 1939 ثم أنضم إلى صفوف المقاومة المسلحة وتحديداً إلى رجال المقاومة السرية الفرنسية في آردين.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

أصابع بابلية' لأحمد مختار تتوّج عالميا

في استفتاء موسيقي تنافسي سنوي حصلت إسطوانة “أصابع بابلية” للمؤلف الموسيقي وعازف العود العراقي أحمد مختار على مرتبة ضمن العشر الأوائل في بريطانيا وأميركا، حيث قام راديو “أف أم للموسيقى الكلاسيكية” الذي يبث من...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram