محمود عبد الوهابماذا تسمّي الالتماعات الشجاعة، حين يأنس المرء بلحظته دائماً، ولا يأسف على ما فات، ويتقحّم ما سيأتي به الغد من دونما خشية؟ هي دهشة الطفولة في أول العمر، والحلم الرومانسي لتغيير العالم وبنائه من جديد في وسط العمر، والومضات الشحيحة للسعادة مثل غمزات النجوم في ليل غائم، آخر العمر . شعرية العمر هي في ديمومة الدهشة، وهي الشـباب الذي لا يشيخ،
فليس الشباب زمناً معيارياً للعمر تحدّده السنوات، إنما الشباب حقاً رؤية متقدمة للعالم تتجاوز إحباط السنوات التي تخترقك، ومن هنا، ما لم يخضع العمر لقانون الشعرية بهذا المعنى، فإن المرء سيتثاءب حياته ويبصقها من الضجر. كنا صغاراً نمتطي قصبة لا نتخيلها حصاناً، إنما نراها حصاناً حقاً، نرفع أعجازنا عن القصبة حين نسرع، ونقعدها حين نتريث في السير، وبعد جولتنا، نركن القصبة الحصان عند جدار، نشدّ مقدمها بالحبل بحنوّ بالغ .. هذه هي الشعرية الأولى من عمرنا. في المدرسة، كبرنا، استقامت قاماتنا، غالباً ما كنّا نقطع الطريق إلى المدرسة بتصنّع، وبوقار رومانسي، وبوجوه صينية بلا انفعال، الكتب في اليد اليسرى، ونظراتنا إلى الجهة الأخرى من الشارع الضيّق، حيث تمرّ طالبات المدرسة المجاورة، وهنّ يترققنّ في مشيهنّ، وترتمي فجأة رقتهنّ في صدورنا، نحن طلاب المدرسة الإعدادية..وهذه هي الشعرية الثانية من عمرنا. في الكلية، امتزجنا نحن وهنّ معاً في زمالة متكافئة، أحاديثنا وديّة، لكنها تتستر أحياناً، عن الإعجاب، بدثار حييّ، وهنّ يتغافلنّ القصد، وفي غرفة الصف، يلتمع زجاج النافذة بوهج الشمس، وكنّا داخل الصفّ،نصغي معاً إلى أساتذتنا الكبار، ونزداد، كلّ لحظة، علماً ورؤى ووعياً..وهذه هي الشعرية الثالثة. أصبحنا رجالاً . نقرأ ونكتب، وننشر ما نكتبه في الصحف والمجلات ونُصدر الكتب، حماسنا شديد، وجدالنا حول ما نعرف وما نجهل حادّ غاضب، لا نريد أحداً يخطّئنا، نحن الذين على صواب دائماً!، أصبحتَ، الآن، رجلاً حصيفاً مثل بحر هائج ثم هدأ، والآخرون من الشباب الآن،الذين فيما مضى كنتَ قرينهم، يرتدون أرديتك، ويتجادلون بحماقاتك نفسها، إنهم أنت لكنّ شخصهم غيرك .. وهذه هي الشعرية الرابعة. وتجنح الطائرة، وتبدأ تهبط مثل إوزّ مهاجر، وتحدّق أنت من نافذة الطائرة إلى أرض المطار وإلى منائره الدائمة الدوران، تلمح السقوف القرمزية وحقول الكرنب الحمر والصفر، وتقترب الطائرة وتلمس بعجلاتها الأرض، تدور وتدور ثم تستقر، ليل المطار موحش، وأنت داخله،كأنك تُساق إلى المجهول، لكنّك،وأنت، في ضحى المدينة الصاخبة، تتوغل في شوارعها وأنديتها ومطاعمها، وساحل البحر أمامك والمطر ينهمر منذ أيام "حتى كاد سطح البحر أن يتبلل"، تفتح مظلتك وكأنك إحدى الشخصيات المنفلتة من رواية مكتوبة، وبغنجٍ، تحتمي بمظلتك من المطر، شابة متوردة الوجه . المطر ينهمر، وتذهبان معاً إلى مقهى زجاجي، ومن وراء الزجاج ترى العابرين يتخاطفون بمظلاتهم من أمامك، وعجوزاً متلكئة متذمرة تنظر إليك، كأنها تشتمك..وهذه هي الشعرية الخامسة. في مدينتي، قبل أيام، كان البرد شديداً يلسع الوجوه و يقرصها بأصابعه المتوثبة، المارة مسرعون، وشاب بهيّ الوجه بقامته المستقيمة، وقميصه الخفيف الفضفاض، يتجاوزك بلا مبالاة، في تلك اللحظة، أمسكتَ بخفّةِ ملابس الشاب وتكاثف أرديتك، فارقَ الزمن بينك وبينه . آه يا ليفي شتراوس، أيها الأنثروبولوجي الكبير،وأنت أيضاً يا "بارت" لمَ علمتنا أن نقرأ علامات الأزياء؟ في تلك اللحظة والشاب يتحسس موبايله، أدركتَ أنك عشت وكنت سعيداً حتى بهذا العمر.. وهذه هي الشعرية السادسة. أنت على الحصان القصبة، وفي المدرسة الإعدادية، وفي الكلية مع زميلاتك المتغافلات عن مقاصد الكلام، وأنت القارئ والكاتب، والسائح و المسافر، والكهل والشيخ، إذا كنتَ تأنس بلحظتك، ولا تندم على ما فات، وتغامر بما سيأتي به الغد، أنت، إذن، ابن الدهشة والحلم، وجامع السعادات، وقنّاص شعرية العمر أبداً.
اوراق :شعرية العمر
نشر في: 9 فبراير, 2010: 05:04 م