عبد الغني الملاح ليس من السهل تجسيد النواحي الانسانية عند الرجل الذي يعتبر فضيلة المجابهة اساسا للسلوكية السياسية وأساسا لقيادة المجتمع. في التاريخ نوعان من الرجال نوع يصنع الاحداث ونوع آخر يستغل الاحداث عند ولادتها، فمثلا فولتير ومونتسيكيو وروسو صنعوا الثورة الفرنسية، ثم استفاد منها نابليون.. وغاندي صنع استقلال الهند، ثم استفاد من هذا الاستقلال حزب المؤتمر الهندي..
والذين يصنعون الاحداث في معظم الاحيان يمتازون بفضيلة المجابهة، وكثيرا ما تكون هذه الفضيلة مدعاة للنقد من قبل اولئك الذين يقيسون أبعاد التاريخ بالمصالح الانية، لان سلوكية المجابهة التي يتصف بها الرجل العظيم تكون بمثابة المصيبة العامة فتتألب عليها كل ازدواجيات المجتمع وكل فردية التيارات.. وبقاء مثل هذا الرجل في قيادة حزبه او مجتمعه مرهون بصدقه وقوة شخصيته وسعة اطلاعه ووضوح الرؤية لديه. وفي رأيي ورأي الكثيرين ان كامل الجادرجي كان احد اولئك القلائل الذين اتصفوا بالاضافة الى فضيلة المجابهة بقوة الشخصية وصدق القول ونبل الهدف، وهو احد الذين تحملوا اضطهاد اهل زمانهم لتمسكهم بالفكر ورفضهم المساومة على حساب مصالح الاكثرية من اهالي الوطن، واعتبار مجابهة المسيئين باساءاتهم من اهم سبل النضال السلبي. هناك ظاهرة اجتماعية تعتبر التمسك بالبدايات الطيبة اهم من السير وراء تلك البدايات ، كما لاحظ ذلك المؤرخ الروماني "ستاللوت" الذي عاش ما بين 86-43 ق.م، لأن التمسك بالبدايات الطيبة كثيرا ما يكلف المتمسكين بها متاعب كثيرة، من حيث ان الدروب امام تلك البدايات ليست معبدة المسالك دائماً وليست واضحة المعالم على الاغلب، وربما حاول "الجادرجي" بفضيلة المجابهة التي يتمتع بها ان يحد من انحراف البدايات الطيبة التي كان يتمسك بها بمفهومها الانساني للديمقراطية، ومن هنا هل نقدر ان نقول ان الجادرجي باصراره على الديمقراطية كبداية طيبة اراد ان ينقض راي "ساللوت" في قوله "تنشأ جميع الامثلة السيئة من بدايات طيبة"..؟ أم ان الجادرجي نفسه شذ عن هذه الظاهرة فعاش ومات وهو يتمتع بفضيلة المجابهة من اجل ترصين قواعد الديمقراطية من دون ان تحرف خط سيرة الاحداث؟ التي ارفض القول بأن الجادرجي لم يكن ذا مطامح لأن مفهوم المطامح ينشطر الى شطرين، الاول هو الذي يستغل اصحابه الاحداث للمنافع الانية او الشخصية، فردية كانت ام حزبية، والثاني هو الذي يستغل اصحابه الاحداث لايجاد قاعدة عامة تسعد اكثر ابناء المجتمع ، كاقتراح تشريعات انسانية تفك القيود عن حريات الناس العامة وحقوقهم المشروعة واخلاقهم المقيدة بالتقاليد ووعظ السلطان، مما ينمي المشاعر الوطنية ، ويحدد الاهداف القومية ، ومما لاشك فيه ان مطامح الجادرجي كان يمثلها الشطر الثاني ، ولذلك بقي قويا في حزبه وفي مجتمعه وفي سلوكيته، وقد ادرك الجادرجي منذ عام 1936 ان مطامحه لاسعاد اكثرية ابناء الشعب لايتورع "المغامرون" من استثمارها ، ولكن هذا الادراك لم يحرفه عن فضائله في المجابهة، ولم يمنعه من الاستمرار في الدعوة للديمقراطية نظاما صالحا للحكم. آمن الجادرجي بالديمقراطية اسلوبا لتحقيق الاهداف الاجتماعية كما آمن بالاشتراكية عقيدة ثابتة يمكن تحقيقها بالديمقراطية من دون التضحية بسعادة الانسان او كفاءته أو وجوده. ومن اجل هذا نراه دائماً يرفض اعطاء حق الاقلية في اغتصاب حقوق الاكثرية الا في حالات تكون حقوق الاكثرية نفسها معرضة لخطر الاجنبي او خطر دموي، مخالفا، بهذا النظرية الماركسية بقدر ما يتعلق بثورة الاقلية على الاكثرية، ومتفقا معها بما يتعلق بالتطور العلمي للمجتمع ونحن لا نعتبر هذا الكلام غامضا او متناقضا ، لأننا نكاد نلمس فوارق معينة ما بين المفهوم السياسي وحتى اللغوي لاصطلاح "الاشتراكية الديمقراطية" واصطلاح "الاشتراكية المطبقة بالوسائل الديمقراطية" ، كما اننا لا نشك ان الاصطلاح الثاني هو الذي عناه وتبناه الجادرجي خلال نضاله السياسي.. ولا نشك بان المجتمع بحاجة الى كثير من العناء والتجربة وكثير من الدقة لوضع الفواصل الثابتة بين المفهومين. كما ان الجادرجي كان قد استوعب من خلال كفاحه السياسي حقيقة الظرفية التي عاشها وأدرك ان المجتمع العراقي الذي عاصره كان يضم بين طياته شعباً متخلفاً اقتصادياً وفكرياً واجتماعياً يفتقر الى النضوج السياسي مثلما يفتقر الى صدق الرعاية والتوجيه الديمقراطي الصحيح، وكل ذلك ناتج من ثقل العصور التي مرت على العراق بعد وقبل سقوط الدولة العباسية، وعليه رفض دائماً وبكل اصرار ديمقراطية التزكية وديمقراطية الفئة الحاكمة وديمقراطية الصفوة التي يرضى عنها الملك او من هم وراء الملك.. وناضل من اجل ديمقراطية مستوحاة من الحريات العامة وحقوق الانسان، غير خاضعة لايحاء متنفذ او ضغط حاكم او شفاعة شفيع، او رشوة اقطاعي.. ديمقراطية تنفذ فيها الاقلية قرار الاكثرية وتضمن الاكثرية فيها حق الاقلية في التعبير بشتى وسائله الاعلامية، يمارسها الشعب ذكورا واناثا بحرية، مقتنعا بأن الشعب يدرك اين تقع مصالحه، ولم يحدد الجادرجي زمنا مرحليا لتنفيذ مثل هذا النظام الانساني، لان تنفيذه رهين بمدى النهوض الفكري والاستعداد النفسي عند ابناء الشعب، وجريدة الاه
فضيلة المجابهة عند كامل الجادرجي
نشر في: 10 فبراير, 2010: 04:45 م