TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > خارج العاصمة: تعبير حلم محفوظي

خارج العاصمة: تعبير حلم محفوظي

نشر في: 15 فبراير, 2010: 05:01 م

محمد خضير لعل آخر عمل طالعه القاريء العراقي لنجيب محفوظ قبل سقوط بغداد كان رواية (الحرافيش). تراجعت صورة محفوظ ونسينا محيّاه الأليف، حتى بعد وصول صور احتفاله بعيد ميلاده التسعين، وكان يبدو فيها شيخاً أصمّ، تطل نظرته من شقين مخصومين في وجه موميائي
 لم يطّلع على بلدان كثيرة في حياته، ولم يقرأ شيئاً لكتابها المتأثرين برواياته. صارت القطيعة بين الأديب العراقي ومحفوظ مثل قطيعة نص هيروغليفي مع قرائه، كما شطرت دور النشر العربية أعماله إلى أصلية ومزورة وسوغت قراءة ما هو محظور ومغلّف، بما في ذلك كتاب (الأحلام) الذي ختم به محفوظ عمره المئوي، بعد أن همدت ضحكته مع ارتفاع سخرية الكوميديا العراقية، فكان هذا الكتاب وحده يخولنا أن نحلم بحلم محفوظ، وأن نستدعيه إلى أرضنا رغماً عنه. علّمنا نجيب محفوظ كيف نحتمل الهزائم والكوابيس، وسنرد له فضله بارتجال دراما عابثة بأسلوب التعبير العراقي لأحلامه.  شبع محفوظ من وقائع الحارة المصرية، فنقله حلمنا في آخر العمر وآخر المطاف إلى ما وراء النيل، وأرساه على مسنّاة شريعة بغدادية تزدحم بالحالمين من أمثاله المتلهفين لاستقباله. وستكون كلمات محفوظ الأولى المعبرة عن دهشته وحضور بديهته: يا لطول بال هؤلاء القوم! إن المرء ليحسبهم أيقاظاً وهم نيام، فإذا ماتوا انتبهوا. لا ريب في أن حلمهم أطول من حلمي، ولا شك في أن طول نومهم أيقظ أحلامي المقبلة نحوهم.  ضاع تعجب محفوظ البليغ في هرجة اختلاط حرافيش مصر الذين اصطحبهم الروائي معه بجرابيز الشريعة، على النسق الذي تتداخل فيه الثرثرة القاهرية باللغوة البغدادية، وشطارة الفتوات بحذاقة الشقاوات، وتضيع الوجوه والأزياء في دخان الشيشة. أبدأ تعبيري للرؤيا المحفوظية بسردٍ مقابل لها، في فترة حرجة من فترات نقاهتنا المتصلة، وأنحدر به جنوبي عاصمة الموت الجماعي على مياه دجلة، ثم أنهيه نهاية تهكمية بتمثيل فصل من فصول خيال الظل الأراجوزي. أخرجُ بقارب نجيب محفوظ مع حرافيشه من شريعة في باب المعظم، منحدراً من غمام العمارات المهتزة بالانفجارات إلى اتساع الطبيعة النقية الآمنة، وفي نهاية النهار أرسيه على مسناة نزلٍ في منتصف المسافة بين بغداد وواسط، حيث ارتأى الحرافيش قضاء ليلتهم في حماية حجرات النزل المنشأة على طراز خانات الطريق العباسية. كان النزل محتشداً بالمسافرين، واستقبلت الحرافيش وسيدهم فرقة من الممثلين الجوالين يقودهم رجل مخبول، إضافة إلى عدد من الأطباء وسعاة البريد والتجار هم نزلاء الخان.م يشك صاحب الخان بحقيقة الفرقة التمثيلية حال نزولها عنده، وما يخفيه أفرادها في متاعهم وبضاعتهم، وما يكتمونه وراء شخصياتهم وأسمائهم، ثم قدّمهم إلى الضيوف المصريين بصفتهم فنانين محترمين. لم يُفتضح حالاً منشأ فرقة التمثيل التي هربت مع جماعة من مجانين مستشفى الشماعية بعد احتلال بغداد، واختلطت بالأطباء الذين كانوا في حقيقتهم زبانية أحد سجون بغداد المختصين في تعذيب السجناء، والتجار وأشهرهم نخّاس ينقل معه قفصاً فيه ثلاث فأرات. ولم تتضح حقيقة هؤلاء حتى اتفقوا جميعاً على إحياء أمسيات صاخبة يلعبون خلالها أدواراً تمثيلية تفضح نوازعهم الباطنية المرعبة. وقع حرافيش مصر في فخ الحلم العراقي، وضاع صواب صاحب الخان وأسُقِط في يده.بعد صلاة العشاء، نصبت الفرقة الجوالة قماشة التمثيل البيضاء في حوش النـزل الواسع، وأعادت تمثيل وقائع المقامة التاسـعة والعشرين المعروفة بالمقامة (الواسطية) بأسلوب أبي زيد السروجي, فاستولى المجانين على ألباب الروائي المصري وأصحابه بمكرهم وخفة حركاتهم، وانتزعوا الضحك والتلويحات من رؤوسهم المغمورة بالنشوة والحبور. ثم لعبت الفرقة دوراً من أدوار المسخ شارك فيه التاجر صاحب الفأرات الثلاث.    وقف التاجر أمام قماشة التمثيل المضاءة بمصباحين زيتيين، ورفع يده عارضاً قفص الفأرات وتكلم عن قصة مسخهنّ وسكنهنّ في معمل لصنع الزلابياء، ثم شرائهنّ من صاحبهنّ الحلواني بعد أن تسببنَ في خسارة معمله. وختم التاجر قصته بالاختفاء وراء القماشة، فشاهد النظارة خيالات الفأرات تخلعنَ ثياب المسخ وترتدينَ ثياب الجواري، ثم تخرجنَ راقصات رافلات بثيابهنّ وخلاعتهنّ. عندما حان دور الأطباء المزيفين في عرض فنونهم أمام القماشة وخلفها، كان انشراح الحرافيش قد بلغ ذروته، وهم يشربون كؤوساً من الشراب المخدر أدارها عليهم سحرة الخان المجربون في عمل السموم داخل السجون. سكر الحرافيش وغرقوا في نوم ثقيل، وشملهم الحلم الهارب من رأس الحجاج بن يوسف الثقفي بعباءته وعمامته.عندما استيقظ الحرافيش في ضحى النهار العالي، ألفوا أنفسهم مقيدين بالحبال في ساحة النزل الواسطي الخالية، وقد هرب الممثلون بقاربهم الذي أرسوه في شريعة النزل. صاحوا على سيدهم الروائي المثقل الرأس بشراب البارحة، وسألوه عن الأمر فعجز عن الجواب. لا شك في أن الحلم الحرفوشي الذي أنتج روايات نجيب محفوظ الكبيرة قد توقف عند هذه المرحلة من السفر، فيما انحدر الحلم العراقي بجرابيزه نحو مصيره المجهول. هذا ما استنتجه سيّد الحرافيش المذهول من سحر واسط، وأحلام ليلها الطويل، ولم يصرح به لأصحابه

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram