د. أسرار الجراحصلاح عبد الصبور ، هو الابن البكر لقصيدة التفعيلة المصرية ، التي هزت تدفقاتها الفتية أعمدة الشعر التقليدي وزلزلت رويّه بقوة ، إبان الحرب الكونية الثانية ، كان صلاح عبد الصبور قد صافح أذن المستمع أول ما صافحها من خلال حنجرة العندليب الساحر عبد الحليم حافظ ، في قصيدته لقاء ، التي لحنها كمال الطويل ، والتي كتبت ميلاد مطرب سيكون له شأن غير عادي في تاريخ الغناء العربي ،
وملحن سيتربع علي عرش الألحان الجديدة الخارجة من رحم الأصالة ، وشاعر سيقتنص من دنياه خمسين عاما فقط ، لكنها ستكون كفيلة لبناء واحدة من أكثر التجارب الشعرية العربية غني وثراء وتجذرا . يقول مطلع الأغنية التي اتشحت بوشاح رومانتيكي 🙁 بعد عامين التقينا ههنا والدجي يغمر وجه المغرب )نعم لم ينتبه المتابعون كثيرا للقصيدة في أول الأمر ، كما لم ينتبهوا للصوت ولا للحن ، غير أن الأجواء السياسية التي شهدتها مصر في هذه الفترة ، كانت تتطلع لميلاد جديد ، علي الصعيد السياسي والفني والاجتماعي والاقتصادي والأدبي ، وكان لابد من وجوه جديدة ، وأسماء غير معهودة ، تناسب ما يطرأ علي البلاد من تغيرات ، وهكذا ، ركب فاروق الملك الباخرة ( المحروسة ) مغادرا البلاد إلي غير رجعة ، ومع دقات المدافع الملكية التي أصر الملك المخلوع أن تطلق في وداعه ، كآخر مظهر من مظاهر المجد الغارب ، انطلقت أيضا ، وفي نفس التوقيت ، إشارات ميلاد حياة جديدة ، تتخذ الاشتراكية مذهبا ، والتكافل الاجتماعي درجا ، والتحام الجماهير بالقائد الشاب أساسا للحكم ، وكان علي السلطة الجديدة ، أن تبحث عن أسماء جديدة تحمل فكرها ، وتروج لمذهبها ، وتنشر الآمال بين الجماهير الغفيرة التي طال انتظارها لفجر آتٍ .وكان علي الشعر أن يبحث عن ثوب جديد يرتديه ، ثوب يتيح له حركة أكثر حرية وأبعد أفقا وأعمق غورا ، وتتيح للشاعر أن يرتدي الأقنعة ويتسلح باستعارات مغايرة ويتطلع إلي واقعية تتناص مع مفردات الواقع الجديد ، ومستحدثاته المختلفة .في هذا التوقيت ظهر صلاح عبد الصبور ، وكان عليه أن يخوض حربا شرسة مع حراس عمود الشعر وأساطين رويه ، الذين كان علي رأسهم عباس محمود العقاد ، والذي كان يحيل قصائده هو ورفاقه إلي لجنة النثر للاختصاص ، حيث كان العقاد مقررا للجنة الشعر بمجلس رعاية الفنون والآداب وكان يري أن مثل هذا الشعر ليس موزونا ، مما دعا صلاح إلي كتابة مقالة عناونها ( والله العظيم موزون ) ، ونشبت الحرب ، وكان عليها أن تستمر طويلا بين أنصار عمود الشعر وبين أنصار تفعيليته ، إلي أن أتي حين من الدهر علي الناس ، يقرؤون فيه المجلات الأدبية فلا تكاد عيونهم تقع علي قصيدة عمودية ، من فرط انتشار الشكل الجديد للقصيدة .لم تكن هذه الحرب هي الوحيدة التي خاضها صلاح عبد الصبور ، لكنها كانت الأولي ، أما آخر الحروب ، فكانت حربا صغيرةً لم تتعد الكلمات الثلاث ، قالها له أحد المثقفين في جلسة عائلية حميمة ، كانت الكلمات جد قليلة ، لكن قلب صلاح عبد الصبور لم يحتملها ، فمات ، كل ما فعله أنه طلب استنشاق بعض الهواء النقي ، وكأنه تشبع تماما من ذلك الهواء الملوث الذي عبق المكان ، ومات ، تماما كما يليق بفارس يتحمل طعنات السيوف وتقتله الكلمة .ولد صلاح عبد الصبور في الثالث من مايو عام 1931 بمدينة الزقازيق ، وتوفي في الثالث عشر من أغسطس عام 1981 بالقاهرة ، والخمسون عاما والثلاثة شهور والأيام العشرة الواقعة بين هذين التاريخين كانت كفيلة بصنع تجربة شعرية استثنائية ، وصنعت من صاحبها شاعرا تاريخيا ، ملأ الدنيا وشغل الناس ، وأضاف لديوان الشعري العربي قصائد ستظل خالدة في عيون القراء وفي وجدان المتلقين .صباي البعيد..أحن إليه، لألعابهلأوقاته الحلوة السامرةحنيني غريب..إلي صحبتي.. إلي أخوتي..إلي حفنة الأشقياء الظهور ينامون ظهراً علي المصطبةوقد يحلمون بقصر مشيد وباب حديد وحورية في جوار السريرومائدة فوقها ألف صحندجاج وبط وخبز كثيرإلي أمي البرة الطاهرةتخوفني نقمة الآخرةونار العذاب وما قد أعدوه للكافرين وللسارقين وللاعبينوتهتف إن عثرت رجليهوإن طنطنت نحلة حوليهباسم النبيتلقي عبد الصبور تعليمه الأولي بمدينة الزقازيق ، وفي عام 1947 نزح إلي القاهرة للالتحاق بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول ، حيث تخرج قبل قيام ثورة يوليو بعام واحد ، وابتدأ حياته الوظيفة مدرسا ، لكنه لم يستطع استكمال دوره في التدريس ، فقدم استقالته ، ليلتحق بركب الصحافة ، فانضم لفريق مجلة روز اليوسف ، ثم جريدة الأهرام ، حتى تم انتدابه للعمل في وزارة الثقافة ، وظل يرتقي الدرج حتى مجلس علي مقعد رئيس مجل إدارة الهيئة المصرية العامة للكتاب .فتح صلاح قوسه الشعري في السادسة والعشرين من عمره ، عندما أصدر عام 1957 ديوانه الأول ( الناس في بلادي ) ، حيث استعرض فيه كثيرا من قدراته الفنية ، مستخدما أسلوب التكرار والسخرية والتقويس ، مستعينا بالثوب القصصي المحكم ، بعده توالت دواوينه الشعرية ( أقول لكم ) عام 1961 ( أحلام الفارس القديم ) عام 1964. ( تأملات في زمن جريح ) عام 1969 ( شجر الليل ) عام 1974 ( الإبحار في الذاكرة ) عام 1979. وفي المسرح الشعري أصدر ( مأساة الحلاج ) عام 1964 ، ( مسافر ليل ) عام 1968 ، ( الأميرة تنتظر ) عام 1969 ، ( ليلي والمجنون ) عام 1971 ، (بعد أن يموت الملك ) عام 1975 . عن دوره في ا
صلاح عبد الصبور شاعر الوجود الإنساني
نشر في: 19 فبراير, 2010: 06:18 م