على المناع قولي ... أمات؟ جسيه، جسي وجنتيه، هذا البريق ما زال ومض منه يفرش مقلتيه قولي ... أمات؟ وأنا غدوت بلا أحد؟ هذي أصابعه النحيلة هذي جدائله الطويلة أنفاسه المترددات بصدره الوردي كالنغم الأخير من عازف وفد النعاس علىه في الليل الأخير وسألتني:
ما الوقت هل دلف المساء؟ أتذهبين؟ ولمَ نطيل عذابه حتى الصباح؟ لن يرجع الصبح الحياة الىه، ما جدوي الصباح؟ لا تلمسيه هذا الصبي ابن السنين الداميات العاريات من الفرح هو فرحتى لا تلمسيه أسكنته صدري فنام وسدته قلبي الكسير وسقيت مدفنه دمي وجعلت حائطه الضلوع ليزوره عمري الظمي إنَّ شعراء الحداثة تميزوا عن الشعراء الذين سبقوهم بابتعادهم عن تناول الموضوع مباشرة وإنما حاولوا بناء معظم قصائدهم حول عالم رمزي يخفي وراءه أفكاراً ومعاني اخرى، أي أن في القصائد الحديثة المبنية بناءً رمزياً، هناك صورتان دائما: صورة واضحة تتبين في القراءة الأولي وصورة اخرى يحاول الشاعر أخفاءها ولكن مع أعطاء الخيوط التي تصل القاريء الىها حتى لا تتحول الى أحجية لا يعرف القـــاريء ما المقصود من ورائها ويفســـرها كل قاريء على هواه. فعنـــد قراءة قصيدة "الطفل" لصــلاح عبد الصبور قراءة أولية يتبين وكأنها قصيدة رثاء كُتبت في موت طفلٍ، ولكن عند التمعن في القصيدة جيداً سيتبين أنها قصيدة وجدانيـــة وليســـت قصيدة رثاء، وما الطفل فيها إلا رمز للحب. والرمز الذي تعرفه روز غريب على أنه "تعبير عميق الفكرة مزدوج المعني أو خفي الدلالة" يختلف من شاعــــر الى شاعــــر، ويختلــــف من قصيدة الى اخرى عند الشاعر نفسه: فبعض الرموز تحمــــل أرثـــاً دلالياً يكمن في ذهن القاريء والمتلقي على حدٍ ســـواء، ورمز مجرد خـــالٍ من أي أرثٍ دلالي وإنما هو من نسج خيال الكاتب ولا يشاركه فيه المتلقي، فلو أخذنا كلمة "الصليب" في أشعار معظم شعــراء الحداثـــة، بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وغيرهما، فهذه الكلمة تحمل إرثا دلاليا يحيلنا الى السيد المسيح وكيف صُلِب وهذا المفهوم لا يكمن في ذهن الكاتب فحسب بل موجود في ذهن المتلقي أيضاً، وبذلك فهو ليس اختيارا ذاتيا نابعا من دواخل الكاتب، كما لو قلنا "زهرة أو بستان" فهنا الاختيار ذاتـــي وهذا ما تميزت به حركــة الحداثـــة فالشعراء لم يقتصر استخدامهم على الرموز المستهلكة ذات الإرث الدلالـــي، بـــل تخطـــوها ليؤسسوا رموزاً جديدة، ويوسَّعوا بذلك دائرة استعمال الرمز. والخيوط التي حاكها الشاعر في القصيدة - ويجب أن نعترف أنه وفَّق حقاً في ذلك - كي نصل الى المقصود من وراء هذا الرمز ولا نبقي نتخبط ونراوح عند قراءتنا الأولي للقصيدة ونسلم بأنها قصيدة رثاء، كما حللها الدكتور مصطفي ناصف في أحد فصول كتابه "الصورة الأدبية" تتجلي في الأبيات التالية: أسكنته صدري فنام وسدته قلبي الكسير وسقيت مدفنه دمي وجعلت حائطه الضلوع وهذا هو المكان الطبيعي للحب في الصدر، في القلب، خلف الضلوع. كذلك قوله (ولمَ نطيل عذابه حتى الصباح؟ /لن يرجع الصبح الحياة الىه، ما جدوي الصباح؟ )، إذن القرار قرارهما - أو بالأحري قرار السيدة وينبغي لعبد الصبور على لسان الرجل الانصياع لذلك الأمر - وليس أمراً ربانياً فهو يقصد لِمَ نؤجِل قرار الفراق حتى الصباح فالأفضل - كما يُفهم من القصيدة - أن نُنهي كل شيء الآن ونطوي صفحة ذلك الحب (ابن السنين الداميات العاريات من الفرح)، ويتساءل بتهكم (ما جدوي الصباح؟) إن لم يتمكن من إعادة الحياة لذلك الحب. كما قلنا فاختيار الرمز هنا اختيار شخصي فالشاعر رأي بأنَّ يرمز لحبه بالطفل وذلك لما للطفل من براءة وعفوية ... ثم أن هنالك تشابهاً بين الطفل والحب فكلاهما نتاج علاقة بين رجل وامرأة، ثم أن استخدام مفردة (صبي) يدل على أن هذا الحب لم ينشأ بين ليلة وضحاها بل يمتد الى فترة زمنية، فهو ابن السنين الداميات العاريات من الفرح. وإذا تأملنا القصيدة لمعرفة الانساق الثانوية التي وظفها صلاح عبد الصبور لتصب في مجري النسق الرئيس في هذه القصيدة إلا وهو النسق الرمـــزي، سنلاحظ أن هناك نسقين ثانويين، هما نسق التوازي والنسق القصصي، وهذان النسقان وظفا توظيفاً جيداً في القصيدة لتعميق المستوي التعبيري والدلالي للرمز. ويقسم كوخ بنية التوازي الى نوعين: بنية التوازي التراكمي وبنية التوازي التعدادي. ويُقصد ببنية التوازي التراكمي هو استخدام البنيـــة النحوية ذاتهــــا ولكن بتوظيف مفردات جديـــدة مترابطة فيمــا بينها دلاليـــاً، وأوضح أمثلة على هذه البنية في القصيدة هي الأبيات التالية: هذي أصابعه النحيلة - هذي جدائله الطويلة اسم إشارة + اسم جمع (في صيغة منتهي الجموع)+ ضمير متصل (ـه) + صفة معرفة مؤنثة أسكنته صدري فنام وسدته قلبي الكسير فعل ماضي + فاعل مستتر تقديره أنا + ضمير متصل مفعول به (ـه) + اسم مفرد+ ياء التملك وسقيت مدفنه دمي وجعلت حائطه الضلوع فعل ماضي + فاعل (ت) + اسم مفرد (مفعول به) + ضمير متصل (ـه) + اسم (مفعول به) وأري لو قال (ضلوعي) بدلاً من (الضلوع) لكانت بنية التوازي متكاملة أكثر، ولكن للشاعر مبسوغاته. وبالنسبة لبنية التوازي التعدادي،
قصيدة الطفل لصلاح عبد الصبور ..نسق رمزي يحتضن محمولات مختلفة
نشر في: 19 فبراير, 2010: 06:18 م