لا يكشف حياة المرء شيء كما يكشفها موته. الحياة خط متحرك، والموت دائرة تثبت الحركة وتنغلق عليها وتوقفنا أمام تفاصيلها التي كانت متناثرة، ووقائعها التي كانت متباعدة متنافرة، فإذا هي في مجال الدائرة تتقارب وتتواصل وتنسجم، فنفهم نحن هذا المسار الذي كان مشتتا في ضوء اجتماعه، نفهمه في سكونه الأخير اكثـر مما كنا نفهمه في تدفقه الجياش وتولداته، حكيمة أو طائشة.
وإذا كان هذا القول يصدق على الناس جميعا، فهو عن صلاح عبد الصبور اكثـر صدقا وإلحاحا، لأن موته لم يكن مجرد خاتمة لحياته، بل هو مصداق لها، حتى يمكننا أن نقول أن موته هو نهاية تجربته مع الموت، نهاية توقعها هو دائما، وربما أرادها إرادة. نعم إن موته دليل باهظ على صدقه، وإضاءة فاجعة لحياته تبطل كثيرا من الأوهام عنه، وتكشف لنا صورا من العذاب الأليم الذي عاناه في روحه وجسده، ونحن نحسبه مجرد كنز شعري استأثر به وحده فألح في استخراج روائعه حتى كأنه استنفده أو كاد، وهو لم يكن في الحقيقة إلا متحدثا عن هول يراه رأي العين، ملحا علينا في أن نضع يدنا على موطن دائه، وان نقترب منه اقتراب الأخلاء الحميمين كان كثيرا ما يصيبه الأرق في السنوات الأخيرة، فيلجأ إلى بعض أصدقائه القريبين يستعين بمسامرتهم في طلب السكينة لروحه، وقد يشرب فيسرف أحيانا، وقد يقرأ من شعره فيستغرق، وقد يغلبه البكاء. قال لط انه شرب هو ويوسف إدريس ثلاث زجاجات في ليلة واحدة. وفي إحدى سهراته الأخيرة تناول مجموعة أشعاره فقرأها على أصحابه- في الحقيقة لنفسه- من الغلاف إلى الغلاف. وفي سهرة أخرى في منزل صديقه الأثير فاروق خورشيد أحس بتعب مفاجئ فاسترخى حتى مرت الأزمة، وتكرر ذلك مرة أخرى في منزله. ولا شك أن هذا كان إنذارا مبكرا بما سيحدث في منزلي. ومن المدهش أن هذا الإنذار الذي تكرر مرتين لم يثر قلقه فلم يستشر طبيبا، فلعله الخوف من الموت، ولعله الرغبة فيه.ليس للموت، إذن، في الكلام عن صلاح عبد الصبور هذا المعنى الأكاديمي التقليدي، معنى الحد والفاصل والنهاية. إن الموت بالنسبة له هو المدخل والبداية. بداية تأخرت في الزمن، لكنها السابقة في الوجود، فلا مفر في الحديث عنه من هذا المدخل، حتى والمتحدث أخ له عرفه من البدايات، ورافقه حتى مثواه الأخير.كأنما كان صلاح ينتظر عودتي إلى مصر بعد ثماني سنوات من الغياب، ليختتم الرحلة الطويلة التي قطعناها معا بين ذراعي. كأنما كان يطلبني أنا بالذات ليقدم لي وحدي هذا المشهد الختامي المروع في قاعة استقبال المرضى الكالحة البياض في أحد مستشفيات القاهرة، لقاء الثانية بعد منتصف الليل. لعله كان يظن أني مصدق فيه قالة السوء، فأراد أن يشهدني على فداحة الثمن الذي. كلفه إياه موقفه الحقيقي. ولعله توقع أن أكون عاتبا عليه صمته والكلاب تطارد اسمي في كل أنحاء مصر وتجد في محوه أو تشويهه، فأراد أن يواسيني بآخر خفقة في جناحه المهيض!كانت صداقتنا مختلفة اختلافا نوعيا- على الأقل بالنسبة لي- عن كل صداقة أخرى. كنا متوادين مؤتلفين إلى درجة المكاشفة الحميمة، وكنا مختلفين ومتنافسين إلى درجة الخروج أحيانا عن قواعد اللعب. كان كل منا يعرف مزايا صاحبه كما يعرف عيوبه، وكنا متفاهمين دون اتفاق صريح غلى أن صداقتنا تقوم بذاتها، فكأنها مستغنية عن مزايانا، وكأنها غير ضيقة بعيوبنا، نوع غريب العلاقات الإنسانية مرسوم بتعقيد شديد، ففيه من عواطف الأخوة، ومن تقاليد الزمالة، ثم لا يخلو أيضا من شرور الخلاف والمنافسة.كان لقاؤنا الأول في أواخر عام 1955 وكان فاترا غير متكافئ. فلسنا ندين لهذا اللقاء بصداقتنا التي لم تأت ابدا حقا إلا في أواخر العام التالي بعد أن أصبت قليلا من الشهرة، وضمنا عمل واحد في دار "روز اليوسف".عندما التقينا لأول مرة، كنت شابا في العشرين مغلقا على إحساس فادح بالموهبة والاضطهاد، وكنت قد قرأت لصلاح الذي كان يكبرني بأربع سنوات قصائده الطليعية التي بدت لي آنذاك نثرا بالمقارنة بشعري الرمزي. لكن صلاح كان قد أصبح مشهورا ولم أكن أنا إلا شاعرا مبتدئا. وكان هو مدرسا يعمل في إحدى مدارس القاهرة، وكنت عاطلا أبحث عن عمل في الصحافة التي كانت لا تزال ملكية خاصة، بعد أن اعترضت وزارة الداخلية على تعييني مدرسا في مدارس الحكومة.أذكر، كان لقاؤنا في ساحة كلية دار العلوم، في نهاية يوم دراسي. لا أذكر المناسبة التي ساقتنا لهذا اللقاء. لعلها كانت أمسية شعرية، ولكني أذكر الإطار. كان عصر يوم خريفي، في ساحة الكلية التي بنيت في القرن الماضي، ففي أسلوب عمارتها وفي شيخوخة أشجارها التي تخترقها الريح وأسراب العصافير كآبة مرتجفة مخيمة، تزيد إحساسي بالغربة والعجز، نبهني إلى وجوده صديق لا أذكره الآن، وكان هو جالسا على الطرف من دكة خشبية فجلست على طرفها الآخر، وقدمت له نفسي، وتبادلنا كلمات قليلة فاترة زادتني إحساسا بالوحشة فانصرفت.كان في هذا اللقاء يبدو بسمرة وجهه وشاربه وأنفه الكبير وشفته السفلى الممتلئة المسترخية جهماً شهوانيا عابثا مكتفيا بنفسه. ولم أستطع في هذا اللقاء الأول أن الحظ ما في عينيه من جمال ونبل وانكسار.أظن انه ظل يعطي لأول وهلة هذا الانطباع الخارج عن نفسه، فقد كان في حقيقته، رقيقا متواضعا شديد الإقبال على الناس. لكن هذه المفارقة بين الظاهر والباطن لم تقتصر على شخصيته، بل اطردت لتطبع كل جانب من جوانب
أحمد عبدالمعطي حجازي ..أنا وصلاح عبدالصبور و الموت
نشر في: 19 فبراير, 2010: 06:25 م