يوسف محمد بناصر(2-2) لا يكاد ينكر أحد، ما للامتداد التاريخي السلفي وبعض معتقداتهم على مستقبل الأمة، وبخاصة تاريخ التأخر والتدهور، بحكم أنه هو الأقرب لحاضرنا ومنه نستمد أيضا، فأغلب أفكار تلك المرحلة التاريخية ترمي بظلالها على مكتسباتنا المعرفية وكثيرا ما تحدد تصوراتنا للقضايا التي نشتغل وننشغل بها اليوم، فلا يكاد تناولنا لها يتجدد، فهو تناول ممسوخ ومنسوخ ومتكرر لتلك الفترات الماضية،
ولا يكاد منهجنا العقلي يتحول عن المنهج الماضوي:"العقل السلفي"-بكل تجلياته- في تعاطيه مع المعرفة والإبداع والتحديث، وفي اتخاذ القرارات وإبداء الآراء، بله عودتنا إليه لتثوير قيمنا الأخلاقية والجمالية والمعرفية وحتى الفقيهة...ان الحديث عن مكتسابتنا المعرفية والمنهجية التاريخية بالنقد، وتواصلنا مع تراثنا وسلفنا بذرائعية ونفعية؛ لا يعني بالضرورة الإنكار عليهم ولا محاكمتهم ولا منع الخطأ عنهم ولا وصفهم بصفة العصمة، كما أن الوقوف على عورات معرفية وعلى إختلالات بعض مناهجهم لا ينقص من قيمتهم ورمزيتهم التاريخية...، بل إن ممارساتنا النقدية على تلك الفترات وعلى بعض شخوصها؛ إنما يأتي في سياق التطلع إلى مواصلة النقد البناء الذي يفصل بين الغث والسمين، وبين الذي يذهب جفاء والذي يمكث في الأرض، فمنهجية القرآن تفرض في تناولها للذي يصلح والذي لا يصلح تلك الممارسة، ثم إن الإصلاح والتجديد لن يتأتى بالانتظار لتتصفى كل تلك المعارف والعلوم لوحدها ويتحدد النافع من الضار، لكن يكون ذلك بحراكنا الفكري وتمييزنا النظري النقدي وبقدرتنا على إحداث انفصال وقطيعة مع الأشياء والأفكار التي تجر إلى الخلف، ثم بعد ذلك إحداث اتصال وتصالح واع مع الذي كان نتاج منهج متكامل يقف على بنية رصينة من الحجج؛ التي تجعله يستحق أن يبنى عليه من جديد للانطلاق نحو المستقبل، دون أن ننسى أننا نتصالح مع أصالتنا المعرفية وتاريخنا الثقافي، وهذا ما تؤكده بعض مقالات المتقدمين من علماء الأمة، لوعيهم بضرورة أن يوجد العقل النقدي ليخلق تصالحا مع المعارف القديمة، بدون أن يكون هنالك استلاب بأحكام السلف المتقدمين.فـ"المقري" مثلا في كتاب:"نـفح الطيب" خلص إلى ما قد يحدث للعقل من انغلاق وجمود أو فصل للعلوم بعضها عن بعض من فتنة وتخلف قائلا:"كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة اسم زنديق، وقيدت عليه أنفاسه ويقتله السلطان، تقربا لقلوب العامة، وكثيرا ما يأمرهم ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدت..."،ولم يقتصر ذلك على الفلسفة لوحدها، إنما كان من حظ العلوم الحكمية وعلم المنطق باعتباره مدخلا للفلسفة، فمدخل الشر شر، فابن طلموس وصف الحالة المزرية التي صارت إليها الفلسفة قائلا:"فاني رايتها مرفوضة عندهم، مطروحة لديهم، لا يحفل بها ولا يلتفت إليها، وزيادة على ذلك، فإن أهل زماننا ينفرون منها، ويرمون العالم بها بالزندقة وقد اشترك في هذا الأمر دهماؤهم وعلماؤهم".ولا املك في النهاية إلا أن أنوه بالمجهود الذي قدمه الأستاذ ناصر الحزيمي في كتابه حرق الكتب في تاريخ التراث العربي الصادر عن منشورات الجمل، حيث تتبع بعض القضايا التي تهم الكتاب ووضعية العلم والعلماء في مختلف القرون الإسلامية، فقام بجرد أهم الأحداث وسرد أخبار أغلب العلماء الذين وقعوا ضحية حرية التعبير أو مقالاتهم المخالفة للنسق. استفاد بعض علماء المسلمين من العلوم التي كانت في عصرهم الزاهر فترجموا ولخصوا وشرحوا لليونان والإغريق والفرس وغيرهم، لإيمانهم بتكامل المعارف وتداخل المناهج بين مختلف العلوم حتى ولو كانت غير العلوم الشرعية، فلا مفاصلة ولا انفصال بين ما يؤلفونه من علوم وبين ما كتبه وألف فيه السابقون من أهل الحضارات المجاورة، وهذه الرؤية كانت تعبر عن انفتاح بعض العقلاء المسلمين على عصرهم، ووعيهم بأهمية تكامل العلوم والمعارف الإنسانية، إلا أن زحف عصر التدهور وبداية رحلة التقهقر شكل لحظة حاسمة في تاريخ المسلمين وعلومهم، بل لحظة انفصال؛ لما كان لذلك من آثار في تشكيل تصوراتهم الجديدة وبناء مفاهيمهم حول مختلف المسائل والمباحث التي ناقشها المتقدمون، فأمسى نقاش تكامل العلوم والمعارف الإنسانية في ما بينها، والذي يكاد يكون مسلما به عند الأوائل، مثار جدل ونقاش محتدم، بله هو باب من أبواب الفتنة والإفتاء المتضارب،كأنه شيء حادث ونازلة مستحدثة في الحضارة الإسلامية بالصدفة.فابن الصلاح الشهرزوري(ت643هـ) اشتهرت عنه فتواه في تحريم المنطق والفلسفة والاشتغال بتحصيلهما، فقال:" الفلسفة أس السفه والانحلال، ومن تفلسف عميت بصيرته عن محاسن الشريعة المطهرة، أما المنطق فهو مدخل الشر ومدخل الشر شر، فليس الانتقال بتعليمه وتعلمه مما أباحه الشارع..."أما استعمال المصطلحات المنطقية في مباحث الإحكام الشرعية، فمن المنكرات المستبشعة والرقعات المستحدثة، فمن تمنطق تزندق"،فتاوي ابن الصلاح الشهرزوري. فكأن الشيخ ابن الصلاح قد حسم للأمة في معضلة عظيمة نزلت بها؛ تهم العلوم والمعارف الإنسانية المستحدثة والتي اتصلت بالمعارف الإسلامية، فحكم أيضا على من يتعلمها وعلى من يشتغل بها بالسفه والضلال، وبذلك كان
لحظات حرجة في تاريخ المعرفة والعقل الإسلاميين
نشر في: 21 فبراير, 2010: 05:16 م