محمد خضيرتشبع الأدب العراقي بموروث المجتمعات الأبوية، واشتبكت في نصوصه جذور الأب المقتول بجذور الملك المقتول في منتصف القرن العشرين. التحقت أجيال الحرية والمساواة الاجتماعية والتقدم بأجيال الآباء المقتولين، وأصبح هاجسها ملاحقة الطباع الشرسة لحكام الجمهوريات السابقة والتشهير برذائلهم وإسرافهم وتعصبهم،
وقلدت بدايات الدراما السياسية وتمثيل النصوص الشيزوفرينية التي جمعت جان بول مارا والمركيز دي ساد في مصحة (شارنتون) بإشراف الألماني بيتر فايس. استفحل انفصامنا الارتدادي، وهوسنا الاستعراضي، فيما حقق بعضنا الإفلات من مسرح العزل والقسوة، ومصحة التوائم المتلاصقة، إلى غير رجعة. تتوالى عروض الأمس بإخراج سيء، وبات مخيفاً أن ينهار المسرح على رؤوسنا وتتكرر المأساة، ويختفي المخرجون الأذكياء.لا اعتراض لدي (أو لدى جليل القيسي) على هذه العروض الدرامية لتعرية الذات، واستهلاك مبادئ التنوير والإخاء والمساواة في تقليد البدايات القاتلة لدراما الأجيال. أنحشرُ اليوم بين الجمهور المحاصر بالرعب والانتقام، وأنتظر طويلاً دخول المسرح مع طابور صاخب لا تزيده حريته إلا تبديداً لموروثه الأبوي، بينما يطل رأس جليل القيسي من وراء الستارة مستعرضاً الوجوه الغاضبة في الطابور، تحاول شق طريقها وسط الزوابع والهجمات الانتحارية نحو المرتفع الذي تخفق على قمته الرايات، وهي تتغنى بأغنية المغنين الأربعة في مسرحية فايس: "مارا ماذا حدث لثورتنا/ مارا لا نريد الانتظار حتى الغد/ مارا ما زلنا فقراء/ اليوم نريد التغييرات الموعودة".ميكروفونات المسرح تعلن عن انفراج قريب، وفجأة يطيح معول جبار بإحدى الرايات، ويهتز المسرح من قاعه، وتتمزق الستارة. ينسحب جليل القيسي مسرعاً، مقلداً صوت دي ساد في المقطع الحادي عشر من الفصل الأول من مسرحية فايس: "أنظر إليهم مارا/هؤلاء الذين امتلكوا يوماً كل ثروات الأرض/ كيف يحولون هزيمتهم إلى انتصار/ الآن وقد فقدوا كل متعهم/ تنقذهم المقصلة من الملل النهائي/ يصعدون وهم في منتهى السعادة إلى المقصلة/ كما لو كانوا يصعدون إلى العرش/ أليس هذا ذروة الفساد؟"كانت هذه واحدة من الحواريات التي استولى عليها جليل القيسي بعد أن أزاح دي ساد واحتل موقعه في الإشراف على فرقة التمثيل في مصحة شارنتون (أو أي مصحة عراقية، أو سجن كسجن أبي غريب، بعد أن يغير جليل ديكور الحوارية تبعاً لذلك ويستدعى ممثلين يؤدون هذه المهمة التمثيلية، لكنه يستبقى موضوعات الحواريات الأصلية في نص بيتر فايس حول الموت والحياة والوطن والأكاذيب الشائعة بشأن العدالة وخداع الجماهير، كذلك خطاب مارا الطويل أمام الجمعية الوطنية قبل اغتياله طعناً بيد امرأة مختلة آمنت بتضحية جان دارك، وهنا يمكننا استبدال البندقية بخنجر المرأة المسماة كوردي لتنفيذ اغتيال مارا المضطجع في حوض استحمام بسبب مرض جلدي، أو المعزول في زنزانة ضيقة بسبب هوسه الراديكالي. ولا غنى في الحالين عن دور المغنين الأربعة الذين سينشدون في نهاية العرض مع الموسيقى: "صدقنا أنها تمثيلية/ نشاهدها بمعدة مرتبكة/ نقف أمامها مذهولين/ وتباركنا القسس". يقول بيتر فايس أنه بنى مسرحية (مارا/صاد) على أساس خطبة كان المركيز دي ساد قد ألقاها في تأبين راديكالي الثورة الفرنسية مارا، من دون أن تكون هناك علاقة فعلية تربط الرجلين غير جنوحهما الثوري ضد الملكية والنظام البرجوازي، لكن دي ساد الخارج من الباستيل تجاوز الحدود فحُجر عليه أربعة عشر عاما ًحتى وفاته عام 1814 في مستشفى شارنتون للأمراض العقلية، وسنحت له الفرصة هناك كي يخرج مسرحيات عديدة وكان يشترك أحياناً في التمثيل مع مرضى المستشفى، وكان بعضهم سليماً من الناحية العقلية لكنه زُج في المستشفى لمواقفه السياسية أو لفساده الأخلاقي. ولقد تخيل فايس لقاء ممكناً بين ساد ومارا لتشابه موت الاثنين، ولجمعهما بين الثورة والجنون. إلا أن اتفاقهما هذا كان يصطدم بحوارهما حول الطبيعة البشرية واستلابها حرية الفرد. كان مارا يهتف "أنا الثورة"، فيما يعارضه ساد قائلاً "مارا إن السجون الذاتية أبشع من أكثر الزنزانات صلابة/ وطالما لم تُفتح بعد هذه السجون، فإن كل ثوراتكم مجرد سجن للثورة، التي يسحقها زملاء السجن المرتشون". وينهي الكورس خصامهما بمثل هذا التعليق "ما يحدث مرة لا يمكن تغييره حتى لو أردنا جميعاً غير ذلك/ كل شيء معدّ سلفاً، وما حدث سيحدث ببطء شديد مشوش، كصورة تُسترجع في رأس مجنون".لم يتمكن دي ساد من كبح غضب مرضى شارنتون وجنونهم الاضطهادي، فحدد دوره الإخراجي بالمراقبة الساخرة لتمثيلهم، وتعرّض بسبب ذلك للجلد. ولما أراد جليل القيسي أن يتحدى طبيعة الموت (الموت مجرد وهم، أضربه بنفس السلاح الذي يستخدمه)، لمّا كرر جليل خطأ المركيز وقع في الفخ الذي نصبته الجماهير. كانت هذه تطالبه باعتلاء مسرح الأحداث وسد الفراغ المتعاظم بعصاب الأجيال وانقلابها على طبيعتها الأصلية ومبادئها التجاوزية. وكانت حقيقة المسرح الجديد امتداداً لتلك المساحة التي بسطها الجيل الأقدم من سكان السجون والمحاجر في طرف ساحة (الفردوس) لاستذكار وجوه غاربة، وأدوار مختارة، ومطبوعات ذاوية. انهار السجن، واتسع المسرح
خارج العاصمة :مارا/صاد بإخراج جليل القيسي
نشر في: 22 فبراير, 2010: 05:21 م