صباح الاغتيال، جلسنا جميعنا أطول من العادة، نشرب قهوتنا التركية على الشرفة. وكان لدى غسان كما هو دأبه الكثير من الأمور للتحدث عنها، وكنّا كما هو دأبنا دوماً حاضرين للاستماع. وكان يخبرنا ذلك الصباح عن رفاقه في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين،
ثم بدأ يتحدث هو وأخته فايزة عن طفولتهما في فلسطين. قبل أن يغادر متوجها الى مكتبه، أصلح القطار الكهربائي لابننا فايز ولابنة أخت غسان وأخيها. كان الثلاثة يلعبون داخل المنزل ذلك الصباح. وكان على لميس، ابنة أخت غسان، ان ترافق خالها الى وسط البلد للمرة الأولى منذ وصولها من الكويت بصحبة أمها وإخوتها لأسبوع خلا، فقد كانت تعد العدة لزيارة أقربائها في بيروت. لكنها لم تفلح في الوصول الى هناك أبداً. فما هي إلا دقيقتان على تقبيل غسان ولميس إيانا قبلة (الى اللقاء) حتى دوى انفجار مريع. تطايرت نوافذ البيت جميعها. انحدرت بسرعة، لأجد اشلاء سيارتنا الصغيرة تحترق. وجدنا (لميس) على بعد بضعة امتار، ولم نجد غسان. ناديته باسمه، ثم اكتشفت ساقه اليسرى. وقفت مشلولة، فيما راح فايز يضرب برأسه الحائط، ورددت ابنتنا ليلى النداء تلو النداء: (بابا، بابا..). وبالرغم من ذلك فقد ساورني أمل ضئيل بأنه قد اصيب اصابة خطرة ليس إلا. لكنهم عثروا عليه في الوادي، قريباً من منزلنا، ونقلوه بعيداً عنّا، وفقدت الأمل بأن أراه مرة اخرى. قعد اسامة قرب جسد أخته الميتة، وقال لها: (لا تجزعي، يا لميس، ستكونين بخير، وستعلّمينني الانكليزية من جديد..). وفي المساء قالت لي صغيرتنا ليلى: ماما، سألت البابا أن يأخذني معه في السيارة لنشتري شوكولاته، لكنه كان مشغولاً، فأعطاني لوحاً كان يحتفظ به في جيبه. ثم قبلني وطلب مني الرجوع الى المنزل. جلست على درج بيتنا لآكل الشوكولاته، وحصل دوي كبير. لكن، يا ماما، لم تكن تلك غلطة البابا، إن الاسرائيليين هم الذين وضعوا القنبلة في سيارته). أنا ارملة غسان كنفاني واحد من شهداء الثورة الفلسطينية العظام. وطني الأصلي هو الدنمارك. استطيع ان اذكر بغموض الاحتلال الالماني الذي بدأ في 9 نيسان 1940. فقد انخرط أبي في حركة المقاومة، اسوة بغيره من الرجال والنساء الدنماركيين. وقدّم كثير من المقاتلين الأحرار حياتهم آنذاك، وآل بعضهم الى سجون (الغستابو) ومعسكرات التصفية اثناء نضالهم ضد الاحتلال الألماني. وكان الالمان يلقبون المقاتلين الدنماركيين الأحرار ب(الإرهابيين)، وهو الافتراء عينه الذي ترمي به القوى المحتلة قاطبة الشعوب المقهورة التي تقاوم الاحتلال وتشرع في النضال من أجل حريتها واستقلالها. بل إن حركة المقاومة الدنماركية كانت قد ساعدت على إنقاذ اليهود أنفسهم من النازيين الألمان. حين تأسست اسرائيل في 15 ايار 1948، كان الدنماركيون شأنهم في ذلك شأن معظم الشعوب الاخرى في العالم (المتحضر) يتحلون بفضيلة الجهل. لقد سمعنا شيئا عن (اللاجئين العرب)، غير ان أياً منّا لم يدرك آنذاك ان شعبا بأكمله قد دفع الثمن. وكان عليّ ان انتظر اثنتي عشرة سنة قبل ان أعي وجود شعب فلسطيني طرد من وطنه الأصلي بمعونة القوى العظمى وبشكل أساسي: بمعونة الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا. في عام 1960 شاركت في مؤتمر عالمي للأساتذة، وشاركت لاحقاً في مؤتمر للطلاب في يوغوسلافيا. وكانت تلك المرة الاولى التي واجهت فيها المشكلة الفلسطينية من خلال لقاءاتي ببعض الطلاب الفلسطينيين. وعند عودتي الى الوطن التحقت ب(جامعة الشعب العالمية في الدنمارك) حيث واصلت نقاش تلك المشكلة مع زملائي الطلاب. وسافر بعضنا الى لندن وشارك في مسيرة الدرماستون التي نظمها أنصار نزع الأسلحة النووية بقيادة برتراند راسل. وحين توفي برتراند راسل عن سبعة وتسعين عاماً كان ما يزال يقاتل من أجل العدالة وهذه المرة من أجل الفلسطينيين. في صيف الدرماستون ذاك، عدت الى يوغوسلافيا بصحبة فرقة فولكلورية دنماركية شهيرة، هي (تينكلوتي)، وهي فرقة قد كنت عضواً فيها لسنين عشر. وقد التحق بعضنا بمخيم عمل عالمي حيث التقينا بطلبة اسرائيليين، ثم التقينا في مخيم آخر بطلبة عرب، وتحدثنا عن المشكلة الفلسطينية مع الفريقين كليهما. في ايلول 1961 ذهبت الى سوريا ولبنان لكي ادرس المشكلة الفلسطينية عن كثب. وفي بيروت، عرفوني الى غسان كنفاني، وكان آنذاك واحداً من محرري المجلة الأسبوعية العربية (الحرية). وكانت المجلة ناطقة باسم (حركة القوميين العرب)، وكان غسان محرراً للشؤون الفلسطينية فيها. حين سألت (غسان) ان يأذن لي بزيارة بعض مخيمات اللاجئين، تملكه الصمت. وبعد هنيهة صرخ غاضباً (او تحسبين أن شعبنا الفلسطيني حيوانات في جنينة حيوانات؟!). ثم شرع بالتفسير، فتحدث عن شعبه وعن وطنه، تحدث كيف أن الأمم المتحدة نقضت ميثاقها في 29 تشرين الثاني عام 1947 (1) حين قسمت فلسطين خلافاً لإرادة سكانها العرب (الذين كانوا يشكلون آنذاك ثلثي حجم السكان، وكانوا يملكون أكثر من تسعين بالمئة من الأراضي)، وتحدث كيف أن دولة آسيوية واحدة (في الفيليبين) ودولتين افريقيتين اثنتين (هما ليبيريا وجنوب افريقيا) صوتت لصالح قرار التقسيم، وان الدولتين الأوليين قد مارست الولايات المتحدة عليهما ضغطاً شديداً لحمل
قصة غسان كنفاني..كما ترويها زوجته الدنماركية آني
نشر في: 26 فبراير, 2010: 06:49 م